"يا شافي يا عافي..."
بقلم الطاهر الهمامي.
حقائق- جمرة الماء- -عدد 726- من 18 الى
24/11-1999، ص 15.
النقد "دينامو" الحياة، وبنزين
الترقي، و "الشافي العافي"...أليس كذلك؟ أنا أومن بذلك، على كل حال،
أيها الناس: ليل داج، وسماء ذات أبراج، وريح عجاج!
النقد يعلو ولا يعلى عليه! ذي باتت قناعة
كافة عقلاء المعمورة ولها أذعن معظم سفهائها، في هذا الهزيج الأخير من القرن وقبل
انبلاج فجر الألفية الثالثة.
والنقد لا يغيب و لا يقاوم و لا يردّ أصلا،
مهما همّشته و تلافيته و جانبته و ناورته، بل مهما حاصرته. يظل يتسلّل بين الجلد والعظم
وتحت جناح الظلام وعلى ورق الأشجار وفي حبّات المطر و بين الجدران و داخل بيوت
الاستحمام و على التراب والسحاب والضّباب. لأنه من صلب الحياة والعلامة على سلامة
جسمها والدليل على عافية عقلها.
و إذا لم يكن للنقد من فضيلة سوى فضيلة التحسيس
بالأخطاء و النواقص و العيوب لتداركها في الابان، فحسبه ذلك ووجب أن ينزّل منزلة
سواد العين و سويداء القلب، وان يكرّم الذين يتعاطونه ويجاهرون به و يثنّى على
الذين يشجّعونه و يتقبّلونه و أن يربّى النشا عليه حتى ينشا على حليب الحرية، و
قوت الاختلاف، لأنه في الحالة الأخرى، ينشا انغلاقيا متحجّرا، زميتا، و تصيبه أزمة
"التصطيكة"، و يفقد نكهة الكينونة، و يفرّط في اثمن راس مال، و عندها
يتقلّص في معاملاته و تصرّفاته و ردود فعله نصيب قوّة الحجّة، و تقوى حظوظ حجّة
القوّة و الاحتكام الى العضلات في فضّ الخلافات، مهما كانت بسيطة، و في أهون
الحالات، إلى سكاكين الكلمات، و كأن البشرية لم تتقدّم قيد أنملة على طريق الروح
المدنية و التعامل الحضاري و مكان الفكر، ما تزال القرون ثابتة والأقرنون يتنادون :
هل من مبارز، هل من مناطح!!
والذي لم يستوعب الفكرة النقدية، يظلّ إطلاقيا،
عييا لا يؤمن بنسبية الصحة والخطأ، وبكون الحقيقة موزّعة بين الناس إن لم نقل بين
الكائنات على سبيل العبرة، و لعل ذلك هو مغزى قولهم "قد يوجد في النهر ما لا
يوجد في البحر". أي نعم، الحقيقة موزّعة وإن بأقدار غير متساوية، لأنه لا
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون و إذا فيضت الصدفة لهؤلاء، رجحان الكفّة، فلا
أكثر من الصّدفة. ولكن لا باس، ما دامت
الطريق المأمونة، طريق السلامة، تقتضي قطع هذا الممر وعبور هذا الجسر.
والذي لا يؤمن بالنقد و جدواه و نفعه، تخمّ
به الدنيا و يتعفّن و تظلّ حدبته خافية عنه، و ان تعاظمت، ويصيبه داء الغرور الذي
لا شفاء بعده.
إلّا أن النقد يا صديقي بمثابة الهواء الذي
تتنفّسه و حين يتعطّل أو يعاق ينقطع النفس أو يضيق، و تختلّ حياة الفرد، و حياة
الجماعة، حياة الأسرة و حياة المؤسسة و حياة الجمعية و حياة المجتمع قاطبة و تنمو
الطفيليات و "تعفرت" شيئا فشيئا و هي مطمئنة إلى كون
"المضادات" الحيوية" النقدية مفقودة، ف"اركض يا لشهب" و
"ألعب يا فار..."!
كان يتوجّه إلي بهذا الخطاب، و هو يدشّن
الحلقة الأولى من "جمرة الماء "التي قرب موعد نزولها و حلولها محلّ جمرة
الهواء الراحلة مع موسم الحرّ وأطرافه، كأنه لاحظ ضيقي بالنقد و انصرافي عن نقد
الذات، فمنذ عرفته ما انفكّ يردّد هذه الفكرة، التي بها أناط نهضة الأمم و الشعوب
و رقيّ الأفراد، قلت:
-لكن النقد يحتاج إلى حدّ أدنى من العقل والحياء!
قال: بدأت تسيّج هذا النشاط بالشروط...وستقضي
عليه...!
قلت: أنا معك، لكن النقد شيء والقدح شيء ثان!
قال: أنا معك، لكن متى انفتح باب النقد على
مصراعيه ووجد أطره المناسبة وأضحى عقيدة فلسفية راسخة، ودخل في الممارسة العادية،
فلا خوف و لا حزن، و لن يصحّ غير الصحيح.
أما الزبد فيذهب!