يعتقد الكثيرون بأن الصحفي في العالم هو أكثر الناس حسن حظ. بل ربما يقول البعض أنه أحسنهم حظا...
فهو الى جاني أن عمله أنيق ونظيف، لا يحتاج
فيه لأكثر من الورق والمكتب الوثير...فانه يحظى بمميزات عديدة.
مثلا هو يستطيع أن ينتفع بمعرفته وصلاته
بكبار القوم وعليتهم، ويسهل ذلك ما يصعب تسهيله!
حسين الفراج: الصحفيون من
الداخل...؟! يعتقد الكثيرون بأن الصحفي
في العالم هو أكثر الناس حسن حظ. بل ربما يقول البعض أنه أحسنهم حظا... فهو الى جاني أن عمله أنيق
ونظيف، لا يحتاج فيه لأكثر من الورق والمكتب الوثير...فانه يحظى بمميزات عديدة. مثلا هو يستطيع أن ينتفع
بمعرفته وصلاته بكبار القوم وعليتهم، ويسهل ذلك ما يصعب تسهيله! وهو أكثر من غيره ضيافة على
خطوط طيران العالم وعلى العواصم والفنادق وهذا كله بلا مقابل...أي مجانا! والصحفي دائما تحت الضواء والشهرة
وهذه توفّر له واجهة اجتماعية قد لا تتوفر لكبار المسؤولين و المؤثرين...ثم انه
يستطيع أن يكون ثريا بصورة سريعة و مدهشة قد لا تكلفه أكثر من بعض المخابرات
الهاتفية. ولست أدري ما بقية صورة
الصحفي المحسودة لدى الآخرين. فهذه الميزات هي التي كثيرا ما أسمعها ويسمعها
الزملاء! ومع أن كل هذا معقول أو
بالأحرى صحيح، باستثناء الثراء السريع والمدهش، الذي ليس الجميع-أعني ليس كل
صحفي- يرضاه لنفسه بسبب اعتبارات مهمة ان لم تكن مقدّسة في المهنة الصحفية. إلاّ
أنه هناك جانبا لو عرفه الآخرون لتوقفوا عن ممارسة الغيرة-عذرا لهذا التعبير- مع
الصحفيين. وهو أن الصحفي في كثير من
دول العالم الثالث هو الموظف الوحيد في البلد الذي لا يعرف على وجه التحديد مستقبله،
بل لا يضمن ماذا يحدث غدا. فقد يخرج من مكتبه لتناول
الغذاء ويعود ليكمل ما بدأه في الصباح، فيجد نفسه قد فقد عمله! ودون ابداء أي مبررات كافية،
عليه أن يقبل ويذهب الى حيث لا يدري! ولست في حاجة إلى ذكر أمثلة
وقعت لإثبات هذه الحقيقة المؤلمة، في عدد من الدول العربية على وجه الخصوص. مع أنني حين أقول بأن الصحفي
من أكثر العناصر تأثيرا على كل المستويات في أي بلد، لا أبين شيئا جديدا...بل
لعل الصحفي، أكثر تأثيرا من غيره، و بالذات الصحفي الذي يعطى فرصة كتابة راي، أو
يصل الى مستوى من الخبرة، يؤهله للتعرّض الى مسائل دقيقة و مهمة في جوانب الحياة
الاجتماعية و السياسية للوطن. هذه واحدة من جوانب الوجه
الآخر للعمل في حياة الصحفي. أما الثانية فانه معرض وسط
كل هذه المظاهر والأبهة التي يجد نفسه داخلها، إلى فقدان حياته في اية لحظة
وبطريقة مفاجأة ورديئة أيضا. وربما الصحفي في العالم الثالث معرض إلى ذلك أكثر
من زميله في أي مكان آخر. فمن المحتمل جدا أن يكون الصحفي متواجدا في احتفال أو
مناسبة يحضرها مسؤول كبير في دول العالم الثالث، و يكون هذا الحفل هو نقطة
الصفر...و المسلحون في العالم الثالث لا يعرفون الحلول الوسط...! فيذهب جميع من اتى الى
الحفل، وان لم يذهبوا جميعا فعلى القل من يجلسون بالقرب من منصة المسؤول الكبير،
وعادة ما يكون الصحفيون بالقرب من هذه المنصة والبقية تعرفونها! وأتذكر أنني ذات مرة كنت في
احدى الدول العربية مدعوا لاحتفالات كبيرة حضرها رئيس هذه الدولة، و كانت الاحتفالات
مقامة في مكان أشبه ما يكون بالغابة لكثرة أشجاره ومخابئه. و كانت لهذه الدولة
خصومات حادة جدا مع احدى جاراتها في ذلك الوقت، و كل واحدة تهدد الأخرى وتشتم
زعاماتها و لسوء حظي أنني كنت أجلس في الصف الثالث خلف رئيس الجمهورية ويجلس
خلفي رجل بدين جدا، و صوته أجش مرعب ضايقني منذ أن اتخذ مكانه خلفي، و في غمرة
الهتاف و التصفيق و تدافع الجماهير إلى حيث يجلس رئيس الجمهورية، وقف ذلك البدين
بصورة و صرخ فجأة بصوته الذي كان كالرعد: يعيش أبو فلان...و أبو فلان هذا هو
الرئيس. وقد تصورت صرخته قنبلة أتت
من الخلف لتسقط على الرئيس وتنهيه وتنهي من هم حوله! ولأن الانسان في هذه
اللحظات، لا يستطيع أن يخدع نفسه، ويدعي الشجاعة، فقد نهضت من مكاني بسرعة دون
أن أدري ماذا افعل بالتحديد، ولست وحدي الذي فعل ذلك، فقد كان بجواري ثلاثة
صحفيين، أحدهم أجنبي فاجأهم الصوت ووقفوا و هم يلوون أعناقهم نحو مصدره. ما جعل الصحفيين وحدهم
متحفزين ويترقبون وقوع مثل هذه الحوادث، هو أنهم يدركون أكثر من غيرهم الظروف
التي تحيط بالحدث و المناسبة و يتوقعون ما لا يتوقعه غيرهم. ولا أخفي عليكم أنني أخشى
مثل هذه المناسبات، و كلما كبرت شخصية المسؤول في أي احتفال او مناسبة، كبرت
معها خشيتي من الموت الرديء، و هو رديء لأنك تكون رقما ضمن أرقام و لا تتوفّر
أمامك حيثيات شجاعة المواجهة. بعد كل هذا يحسد الصحفي...؟ بالتأكيد النقطة الأخيرة هي
واحدة من أخطار بعض المهن، ومن بينها المهنة الصحفية... حضرني وأنا أختم هذا
الموضوع، مثل عند الاخوة المغاربة يقول: "يا مزوق من برا...إيش أخبارك من
الداخل". ويقال لمن يبدو أنيقا ومدهشا من الخارج...ولكن لا أحد يعرف ماذا
في الداخل. وها أنتم تعرفون عن حياة
الصحفيين من الداخل شيئا من أشياء هي: توتر الأعصاب دائما، والعمل الكثير على
حساب العلاقات العائلية والاجتماعية والسهر...ومنغصات أخرى...! المصدر: الجزيرة (يومية سعودية)، عمود هوامش صحفية،
الثلاثاء 16 مارس 1982، العدد: 3481. |