حتى نلتقي
السبت 21 ماي 1988، السنة1، العدد54.
جمال الدين الكرماوي : اعترافات صحفي
قرأت ذات مرة مقالا مؤثرا لصحفي مصري تقدّم
به السن فقرر ترك المسؤولية والابتعاد عن الكتابة اليومية، ليتفرّغ للدراسات و
البحوث.
كان المقال مؤثرا، لا لأن الرجل ذرف الدموع
وكتب بالدم والحرقة لتركه مهنة المتاعب، وانما لأنه كان يحوي اعترافات قرر الصحفي
أن يدوّنها، ليريح ضميره ويخفف العبء الذي كان يثقل دقات قلبه.
لم يكتب الاعترافات تحت تأثير التعذيب، أو
الضرب تحت الحزام، و لم يكتبها ليكسب عطف الناس و هو الذي بلغ من الشموخ ذروته ولم
يكتبها لتربح مجلته أكثر. كان شجاعا لأنه أسقط القناع...ربما تردد ربما ساوره هاجس
التراجع، ولكنه في النهاية أرسل ورقاته الى المطبعة...لقائل أن يقول لقد جاءت
صحوته في ساعة متأخرة من العمر و لكن الواقع غير هذا.
فالرجل كان بإمكانه أن ينسحب دون إثارة
الغبار خلفه...بل ربما زادته هذه الاعترافات هالة أخرى لإشعاعه...ثم ان اعترافاته
وثيقة لكل الصحفيين الذين يمشون في هذا الدرب الصعب.
الرجل لم يأت اثما يعاقي عليه القانون، و لا
هو نشر فضائح تهزّ موقعه الاجتماعي أو تلطخ سمعته، و انما تحدّث كمحترف عن أشياء
نراها و لا نراها نحن الصحفيون. قانونية، نعم ولكن تشريحها يبين أن الخيط الأبيض و
الأسود قد يمتزجان، فتضيع بينهما الحقيقة.
ماذا قال الرجل؟
طلب العفو من كل من اساء اليهم قلمه، اذ كان
شديدا على من أخطأ و كأن البشر معصوم من الخطأ، فتلك مصيبة، و ان كان شديدا على من
لم يخطئوا فالمصيبة أعظم.
طلب العفو لكلمات مدح و ثناء قد يكون قالها
في غير محلّها، فكانت جواز سفر الممدوح ليسافر الى عالم التسلّط و التطاول...
طلب العفو لخبر كاذب حسبته الصحيفة سبقا
صحفيا، فأساء إلى البعض...ثم اكتفت الصحيفة بتكذيب متواضع، ولكن هل ينفع التكذيب وقد
حصل المكروه ومرّغت كرامة الناس وأعراضهم في الوحل...
طلب العفو لأنه ظن أحيانا أن قلمه ينبوع
المعرفة والطريق اليقين، وهو المتأثر بالمدرسة الفلانية والمنهج السياسي الفلاني،
يحاول أن يسرّب أفكاره إلى أناس صدّقوا كلّ ما يقوله...
طلب العفو لمواقف لم يأخذها، لأنها تخص أناسا
تربطه بهم صداقة وماء وملح وذكريات طيبة... واكتفى بالصمت المريب...
طلب العفو لأنه كان سليط الّسان في الحق، ولكن
"بتكتيك"...
لازم يحسبها قبل أن يطلق النار...يعرف
الخبايا والخفايا فلا يصوّب سهامه لمن له الجاه والسلطة الحقيقية...
وطلب العفو" لجثث" سياسية، رمتها
السلطة فانهال عليها ضمن بقية الزملاء عضا وتجريحا...لأن العملية مربحة، ولأن مؤشر
المبيعات، أهم من كل شيء...
هذه اعترافات لرجل اشتغل في مهنة المتاعب، ولكنها
أكرمته، فارتاح كثيرا و سطع نجمه كثيرا...ليت كل صحفي يقرا هذا...فلا يتدارك الأمر
في ساعة متأخّرة من العمر...