بحث

من الحدث الاجتماعي إلى الحدث الصحفي

الحدث في نشأته الأولى تاريخي اجتماعي لا يوجد إلا في التجربة المباشرة لكل من عايشه وشارك فيه او كان شاهدا عليه ، ولا يخرج الحدث من هذه الحلقة الضيقة إلا عن طريق الرواية.
واليوم وفي المجتمعات الحديثة تتدخل وسائل الإعلام- وسائط الاتصال في دورة حياة المجموعة فترصد الأحداث لتغطيتها وترويها قصد نشرها في أوساط عريضة لم تحضر الحدث  مباشرة،  فيتحول ذلك الحدث الاجتماعي التاريخي إلى خبر ثمّ إلى حدث صحفي ميدياتيكي  ( ميديائي ).
وإن أعلن الصحفيون المهنيون أن روايتهم للوقائع الاجتماعية التاريخية هي تسجيل ثم تفسير ثم تعليق و إبداء  رأي في أهم ما تعيشه المجموعة ( الصحفي مؤرخ اللحظة ) واعتبروا أن آليات المهنة الصحفية وطرق عملها  تضمن مطابقة الأخبار للواقع، فإن العديد من الدراسات التي ستعتمدها هذه الورقة التأليفية تدافع عن رأي مخالف يعتبر أن وسائل الإعلام  ( وسائط الاتصال) وهي تروي الواقع، تعيد صياغته رمزيا و تبنيه من جديد أو تؤسسه  أو   تصنعه  في بعض الأحيان.

تتناول هذه الورقة مفهوم  بناء الحدث Construction de l'évènement  أي  ميكانيزمات الانتقال من المجال الاجتماعي التاريخي الذي يدور فيه الحدث إلى المجال الرمزي الذي تصوغه على مراحل وسائط الاتصال بمختلف أنواعها ويعتبر ذلك الانتقال انتقالا جذريا يجعل من الحدث الاجتماعي  ظاهرة ذات طبيعة مختلفة عن الحدث الصحفي ) الميديائي( الذي لا يمكن ان يحلل إلا كـظاهرة رمزية كلامية قولية مستقلة عن الظاهرة الأصلية التي انطلق منها الخبر، والفارق بين الواقع ورواية  الواقع ليس بسيطا.






من الحدث الاجتماعي إلى الحدث الصحفي


د. المهدي الجندوبي
معهد الصحافة وعلوم الأخبار ­ تونس


المقدمة :

 ينشأ الحدث في المجتمع ويتمثل في وقائع ووضعيات خصوصية يعيشها الفرد أو المجموعة على مدى وجودهما التاريخي ويرتبط الحدث  بصفة جديدة ومميزة تخرجه  عن الصيرورة المعهودة لحياة الأفراد والمجموعات.  وتستعمل عادة مصطلحات مثـل التـفرد و  المفاجـأة  و  التوتّـر و  الاضطـراب  و التغيير و القطيعة و الأزمة و العنف، لتشخيص الأحداث وترتيبها  حسب أهميتها أو خطورتها. فالحدث هو لحظة خاصة في زمن مسترسل ارتبطت بواقعة فردية أو جماعية  تختزنها الذاكرة بسهولة نسبية فيقطع من النسيان الذي يطوي الكثير من الأقوال والأفعال بمجرد مرورها.

والحدث في نشأته الأولى تاريخي اجتماعي لا يوجد إلا في التجربة المباشرة لكل من عايشه وشارك فيه او كان شاهدا عليه ، ولا يخرج الحدث من هذه الحلقة الضيقة إلا عن طريق الرواية. واليوم وفي المجتمعات الحديثة تتدخل وسائل الإعلام- وسائط الاتصال في دورة حياة المجموعة فترصد الأحداث لتغطيتها وترويها قصد نشرها في أوساط عريضة لم تحضر الحدث  مباشرة،  فيتحول ذلك الحدث الاجتماعي التاريخي إلى خبر ثمّ إلى حدث صحفي ميدياتيكي  ( ميديائي ).

وإن أعلن الصحفيون المهنيون أن روايتهم للوقائع الاجتماعية التاريخية هي تسجيل ثم تفسير ثم تعليق و إبداء  رأي في أهم ما تعيشه المجموعة ( الصحفي مؤرخ اللحظة ) واعتبروا أن آليات المهنة الصحفية وطرق عملها  تضمن مطابقة الأخبار للواقع ( وقد تتدخل بعض القوانين لضمان ذلك بمعاقبة ترويج الأخبار الزائفة مثلا ) فإن العديد من الدراسات التي ستعتمدها هذه الورقة التأليفية تدافع عن رأي مخالف يعتبر أن وسائل الإعلام  ( وسائط الاتصال) وهي تروي الواقع، تعيد صياغته رمزيا و   تبنيه من جديد   أو   تؤسسه   أو   تصنعه  في بعض الأحيان.

تتناول هذه الورقة مفهوم  بناء الحدث    Construction de l'évènement  أي  ميكانيزمات الانتقال من المجال الاجتماعي التاريخي الذي يدور فيه الحدث إلى المجال الرمزي الذي تصوغه على مراحل وسائط الاتصال بمختلف أنواعها ويعتبر ذلك الانتقال انتقالا جذريا يجعل من الحدث الاجتماعي  ظاهرة ذات طبيعة مختلفة عن الحدث الصحفي ) الميديائي( الذي لا يمكن ان يحلل إلا كـظاهرة رمزية كلامية قولية مستقلة عن الظاهرة الأصلية التي انطلق منها الخبر، والفارق بين الواقع ورواية  الواقع ليس بسيطا.

النواة الأولى للبناء الميديائي للحدث هي الخبر فكيف يحدّد ما يسمّى عادة عند المهنيين " بالقيم الإخبارية " أو  مقاييس الخبر، صياغة الواقع ؟ تخطيط التغطية الصحفية ، بعد آخر من البناء فبقدر ما توحي به كلمة "تغطية " من رغبة في إحاطة الواقع  والالتصاق به، بقدر ما يبرز تحليل سياسات التغطية التي تعتمدها مؤسسات وسائط الاتصال المكتوبة و الإذاعية والتلفزيونية، أنّ ما يبقى خارج التغطية كثيرا ويحمل دلالات قد تفوق دلالات ما وقعت تغطيته . ثم كيف يتحوّل الخبر إلى حدث صحفي وما هي آليات الفعل الميديائي؟  mediatisation ذلك أيضا بعد آخر من أبعاد بناء الحدث، ستتناوله هذه الورقة باختصار.

 I ­  القيم الإخبارية أو المستوى الأوّل من البناء

 يتّفق الصحفيون على مجموعة من المقاييس تمكنهم من غربلة بعض الوقائع التي تجدّ في المجتمع غاضّة النظر عن بعض الوقائع الأخرى التي ستبقى دون متابعة  واهم هذه المقاييس هي مقاييس الآنية أو الجدّة والواقعية والموضوعية والأمانة والدقة والأهمية والقرب و الصّراع والغرابة والطرافة  وترافق هذه المقاييس مجموعة من المحاذير أو شروط النجاح  مثل وجوب الفصل بين الرأي والخبر و أهمية التزام ناقل الخبر بالحياد إزاء أطراف الصراع والحرص على تعدّد المصادر وتوازنها في صورة تناقض الروايات أو اختلاف المواقف، ويقع أيضا التأكيد على وجوب التحقق  من صحة الأخبار قبل الإسراع بنشرها.

 إن هذه المقاييس التي تكوّن مادة دروس معاهد الصحافة في العالم والتي تتناولها العديد من كتب الصحافة التي  يؤلفها عادة صحفيون تحمّلوا أعباء التدريس ، لا تتجاوز في اغلب الأحيان مرتبة إعلان مبادئ تصعب وقد  يستحيل مراقبة مدى تنفيذها، هذا إضافة إلى نقد مدى نجاعتها. و لا ننفي أن بعض  فرص المراقبة ممكنة مثل  المراقبة القانونية عند الالتجاء للقضاء في بعض الحالات أو المراقبة المعنوية من داخل المهنة في شكل  مؤسسات تحمي أخلاقيات المهنة أو عن طريق تجارب تبادر بها المؤسسات الصحفية كأن تبعث خطّة وسيط  Mediateur   يتلقى ملاحظات  الجمهور وانتقاداته أو مؤسسات مفتوحة على المجتمع المدني مثل المجالس العليا للإعلام والاتصال.

ويعد مقياس الموضوعية مقياسا محوريا انتشر في الخطاب المهني في نهاية القرن التاسع عشر عند انبعاث  وكالات الإنباء التي وضعت لنفسها هدفا تجاريا هو عرض نفس الأخبار على مؤسسات صحفية ذات اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة  وهو إضافة إلى ذلك ثمرة انتشار المنهج العقلاني في تحليل السلوك الإنساني وخاصة المدرسة الوضعية  Positivisme   ولكن الموضوعية الصحفية هي في أغلب الأحيان موضوعية معلنة، ترسم هدفا  يعسر انجازه على العديد من  الصحفيين الذين لا يحذقون مناهج العلوم الاجتماعية والذين لا تسمح ظروف عملهم التي تضعهم يوميا في  خضم أحداث متجددة وقضايا متنوعة متغيرة بتعميق  فهمهم لهذه الظواهر.

هذا وقد انتبه بعض الصحفيين إلى الدور الذي يمكن ان تؤديه العلوم الاجتماعية في الارتقاء بالصحافة وأنشؤوا مدرسة صحفية  عرفت باستعمالها المكثف لمختلف تقنيات العلوم الاجتماعية ومناهجها Precision journalism  كما يسعى عدد آخر من الصحفيين إلى تكثيف فرص الاستشارة في اتجاه خبراء العلوم الإنسانية والاجتماعية  وإعطائهم الكلمة مباشرة لتقديم معطياتهم وتحاليلهم عندما تسمح أحداث الساعة بذلك وتبقى هذه التجارب  محدودة لا تمكن من تعديل العفوية والانطباعية التي يتعامل بها عدد مرتفع من الصحافيين مع الواقع.

وقد ذهب الكثير من الصحفيين في العالم إلى إبداء تحفظ إزاء مبدأ الموضوعية وفضّل الكثير منهم تعويضه  بمبدأ الأمانة في نقل الوقائع دون إخفاء أو تحريف مقصود  fairness   وعلى العكس من ذلك يعتبر برنار فوايين (1)  وهو صحفي فرنسي كرّس حياته لتكوين الصحفيين ­ أن  " الخبر  موضوعي او لا يكون" ويدعو إلى التمسك بمبدأ الموضوعية كمقياس معياري يسعى الصحفي إلى  الاقتراب منه حتى وان كان تحقيقه غير ممكن دائما.
 يجابه الصحفي إضافة إلى مقاييس غربلة الأحداث الاجتماعية التاريخية قصد تحويل بعضها إلى إخبار صحفية مهام أخرى مثل انتقاء عناصر الخبر أي الاحتفاظ بالمعلومات والمعطيات التي تشكّل مضمون الخبر وبالتالي  تحدد الصورة التي سيرسمها عن الواقع المروي ومن بديهيات الانتقاء إهمال مادة أخرى يعتبرها الصحفي  ثانوية ودون أهمية تذكر أو هي زائدة عن الحاجة بالنـظر إلى الحيـز المخصـص للخبـر وهو  لا  يتجاوز  خمسـيـن كلمــة فــي حالة الخبر الوجيز ( وقد يصل إلى الألف كلمة في حـالة التقـرير الإخباري).

وينصح عادة الصحفيون باختيار زاوية لموضوعهم أي خيط رابط أو محور رئيسي تنتظم حوله كل العناصر  التي يتكوّن منها الخبر وذلك قصد إنتاج نص متماسك ومنسجم تسهل قراءته او الاستماع اليه
 ويؤكد أساتذة الصحافة على أهمية التراتبية في التحرير الإخباري، أي إدخال أولويات على مختلف عناصر  المادة الإخبارية وإبراز الأهم بوضعها في الموقع الأمامي للخبر وتأجيل  الأقل أهمية إلى  نهاية الخبر وهو ما درج على تسميته بتصميم الهرم المقلوب او الترتيب التنازلي لعناصر الخبر.

وتمثل صياغة الخبر أي تشكّل المعاني في كلمات، مرحلة أخرى مبكرة قد تكون الأكثر أهمية في بناء الحدث  الصحفي ولا يمكن إلا  أن نستنجد بالفلسفة التي تنبهنا إلى صعوبة تطابق الأفكار والكلمات والى أن بعض  الكلمات تحمل أفكارا عفوية وأفكارا مسبقة قد لا نعيرها أهمية عند استعمالها وعلينا كذلك أن نولي قدرا من  الاهتمام إلى المعرفة التي بلورتها اللألسنية  والسميائية حول الكلمات وتنوّع دلالاتها. إن ابسط الأمثلة يمكن ان توحي بتعقد هذه المسألة : ما هو الفرق بين هذه العبارات التي نجدها في الأخبار  "قتل فلان" أو "استشهد فلان"،"إرهابي أو مقاوم" ، " مستوطن او مستعمر" ، " يهودي أو إسرائيلي" ، "إسلامي أو مناضل سياسي في حزب يعتمد مرجعية دينية إسلامية"، الخ...

II ­ تخطيط التغطية الصحفية قرار سابق ومحدد لطبيعة الأحداث

تجدّ الوقائع في الكون ويسعى الصحفيون لتغطيتها على مسرح الأحداث، إن هذه النظرة بعيدة عن الواقع، ولا  تستطيع المؤسسات الصحفية أداء مهمّة البحث عن الأخبار دون تخطيط سابق لعملية جمع الأخبار يتمثل في  الاشتراك في خدمات وكالات الأنباء التي تمتلك بدورها شبكة المراسلين القارين الموزعة بصفة غير متكافئة  على مختلف عواصم العالم. وتقوم كل مؤسسة حسب مواردها المالية والبشرية بتوزيع مراسليها القارين خارج  المقر، كما تخطط لتوزيع تحركات الصحفيين القارين داخل المقر حسب روزنامة الأحداث المتوقعة أو حسب  الأحداث غير المتوقعة ، التي يسعى لملاحقتها الصحفيون بعد انطلاقها أو حتى بعد انقضائها.

ويحدد  هذه العمليات الجانب المالي والتقني وعدد الصحفيين الذي يمكن لكل مؤسسة توظيفه ولكن الإقرار  بأهمية المحددات المالية والتقنية في وضع سياسة التغطية لا يجب ان يخفي أن هذه القرارات تترجم أيضا موقفا مسبقا ذا طبيعة جغرا سياسية من الأحداث التي توليها مؤسسات الاتصال أهمية أكثر من غيرها، كأن يقع  التركيز على الشرق الأوسط او ارويا. إن مختلف مناطق العالم مغطاة بصفة غير متوازنة وينتج عن ذلك أن  كمية ونوعية الأخبار التي يتم جمعها ونشرها، غير متكافئة وكذلك على المستوى الوطني حيث يتم إهمال  أحداث المدن الصغرى والأرياف (2).

ولا يقتصر عدم التكافؤ على البعد الجغرافي ولكنه يشمل أيضا الإطراف الفاعلة في المجتمع على المستويين الدولي والوطني ، أي الشخصيات النشطة في الحياة العامة أو المؤسسات  والمنظمات والجمعيات والنقابات والأحزاب والحركات والدول وغيرها، التي تروي الأخبار أقوالها وأفعالها  وحالات  التعاون والتنافس والصراع التي تجدّ بينها. ويعتبر الصحافيون أنهم يتابعون نشاطات الأطراف ذات   الوزن الحقيقي في حياة المجتمع ولكن تحاليل مضامين الإخبار تبين أن فهم الصحافيين للإطراف الفاعلة قد  يقتصر على الأطراف الرسمية وعلى شخصيات ومؤسسات رسمية أو غير رسمية اكتسبت قدرة على جلب  اهتمام وسائل الإعلام.

ويمكن ملاحظة الحضور الميديائي غير المتكافئ في حقول أخرى مثل الحقل الثقافي، أو الاقتصادي أو الرياضي أو الاجتماعي. ففي الحقل الثقافي مثلا لا نستطيع أن نجزم أن الحضور الإعلامي لبعض الشخصيات أو الحركات الفنية هو دائما في ارتباط بمقاييس إبداعية ومن هي الجهة القادرة على إبداء آراء مرجعية في هذا المجال ؟ وقد تكون الحظوة الإعلامية في كثير من الأحيان شديدة الارتباط بموازين قوى داخلية خاصة بتنظيم الحقل الثقافي ومدى قدرة بعض المبدعين على الوصول إلى آليات الفعل الثقافي ومراقبتها.

التغطية الصحفية على مستوى مؤسسة واحدة او على مستوى قطري أو دولي ابعد من أن تكون إحاطة شاملة بمختلف مناطق العالم وبمختلف قضاياه ومختلف الفاعلين في الحياة العامة، وهي في بعض الأحيان تجابه المفارقة التالية : كيف نرصد الأحداث الجديدة والمفاجئة عندما نكون قد رسمنا خطة تغطية لا تسمح لنا بان نفاجأ إلا بما ننتظر.

III­ من الخبر إلى الحدث الميديائي:

تتمثل المعالجة الصحفية أو الفعل الميديائي في تحويل خبر كان يمكن أن ينشر مثل العديد من الأخبار الأخرى في بضعة كلمات إلى حدث صحفي يحتّل حيزا متعاظما في صفحات الجرائد والمجلات وفي الوقت المخصص للبرامج الإخبارية فيشغل الناس أكثر من الأخبار العادية فيتابعون تفاصيله ويثيرونه في أحاديثهم اليومية وقد يردّون الفعل بأشكال متفاوتة الأهمية مثل مراسلة الجريدة أو التعبير عن التضامن أو الاحتجاج.

والخبر أي الرواية الأولى للواقعة الاجتماعية التاريخية هو النواة التي يمكن أن تنمو وتتطور لتصبح حدثا ميديائيا والخبر الواحد لا يصنع الحدث الصحفي ولكنه يمكن أن يكون منطلقا له في بعض الحالات فتتوالى الأخبار المتنوعة والمتكاملة او المتناقضة حول الموضوع الأصلي.

ولا يقتصر الحدث الميديائي على الأخبار التي تنشر في فترة وجيزة نسبيا حول موضوع واحد ولكنه يشمل كل أنواع الإنتاج الصحفي سواء كان ذا طبيعة إخبارية محضة أو ذا صبغة تفسيرية أو كان رأيا. فتتعاقب وتتكامل الأخبار الوجيزة والتعاليق والافتتاحيات والتحقيقات والاستجوابات والملفات والصفحات الخاصة حول الموضوع الواحد. ويرى بعض الخبراء ان هذا التركيز الإعلامي (focalisation   لا يكفي وحده لنشأة حدث ميديائي إذا اقتصر على وسيلة إعلام واحدة ويشترطون وجود تزامن  sychronisation   يجعل عدة وسائط اتصال مكتوبة وسمعية بصرية تتفق على ترتيب حدث واحد مرتبة الحدث الرئيسي على امتداد عدّة أيام أو عدّة أسابيع فأكثر،

إن الحدث الميديائي هو بالضرورة حدث متعدد الوسائط  وتلعب بعض وسائل الإعلام على المستوى الوطني او الدولي دورا رياديا في نشأة الأحداث الميديائية وتنظيم وتيرتها ويطلق الخبراء على مثل هذه الوسائط المتكونة من الوكالات الكبرى ومن اهم اليوميات والأسبوعيات مصطلح المؤسسات المرجعية لان بقية المؤسسات الأخرى تجد نفسها مجبرة فعليا على مواكبتها في اختياراتها الإخبارية الكبرى.

وهكذا تذكرنا الأحداث الميديائية الكبرى أكثر من غيرها أن تنوّع وسائط الاتصال محلّيا ودوليا واختلاف سياسات تحريرها والمنافسة الكبرى التي تحرّكها لا يجب أن ينسينا ان هذه الوسائط تكوّن نظاما إعلاميا وطنيا وعالميا وان مضامينها ليست دائما مستقلة عن بعضها وان جماهيرها وهذا هو الأهم ليست دائما مختلفة ومنفصلة عن بعضها وتتأكد هذه الملاحظة الآن أكثر من أي وقت مضى.

يتحكم  في الفعل الميديائي هدف رئيسي يتمثل في شد انتباه واهتمام القارئ والمستمع أو المشاهد. ويفرض سوق الإعلام والاتصال على وسائل الإعلام هاجس توسيع رقعة الجمهور إلى أقصى الحدود الممكنة قصد ضمان اكبر قدر من مداخيل الإعلان( الإشهار). هذا طبعا بالنسبة إلى وسائط الاتصال التي لا تعتمد على التمويل الحكومي الذي يحرر وسائل الإعلام من˜سطوة دراسات الجمهور  ولكنه يكبلها بالتزامات من صنف آخر. وطورت مختلف  وسائط الاتصال طرق عمل متنوعة حسب خصوصياتها التقنية تمكنها من تسجيل ومعالجة الأخبار قصد ضمان اكبر رواج لها في المجتمع.

واذ تسعى وسائط الاتصال إلى جلب الجمهور، فان الأطراف الفاعلة في المجتمع من هيئات حكومية وأحزاب ونقابات وجمعيات وغيرها تسعى هي بدورها إلى جلب اهتمام وسائل الإعلام قصد الحصول على تغطية صحفية لأنشطتها ومواقفها وهو ما جعل مصالح ومؤسسات العلاقات العامة تنتشر في مختلف الأقطار وتحتل دورا متفاوت الأهمية حسب البلدان في تنظيم العلاقة بين الصحافة ومختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع.

ويرى بعض الخبراء أن هاجس جلب اهتمام الجمهور جعل عملية  جمع الأخبار ونشرها تتجه نحو مسرحة الحدث وتضخيمه قصد إبراز أهميته وإقناع المتلقي بمتابعته الأخبار. وأدوات مسرحة الأحداث وتقنياتها عديدة ليس اقلها أهمية قرار افتتاح النشرة الإخبارية بخبر معين عوضا عن إدراجه مع كوكبة الأخبار السريعة في الشريط نفسه أو إدراجه في الصفحة الأولى في جريدة يومية عوضا عن وضعه في الصفحات الداخلية. وكذلك قرار الحيز المخصص للخبر الذي يمكن ان يعالج في ثوان معدودة او عدة دقائق، أي في شكل خبر قصير خام يقتصر على الوقائع الآنية او خبر مطوّر يشتمل على خلفية او في شكل ملف مكتمل يجمع بن الخبر والتفسير والتعليق,

 ويأتي في نفس السياق إدراج البرامج الخاصة والملاحق وغيرها من قرارات هيئات التحرير التي ترتب يوميا الأحداث وتعدل نسق إنتاجها الإخباري حسب مقاييس سياسة التحرير.  ولا تكتفي وسائط الاتصال بجمع ما يجدّ من أحداث في المجتمع بل أصبحت تبادر أكثر من أي وقت مضى بالبحث عن ردود فعل أهم الأطراف الاجتماعية حول بعض الأخبار فيولّد الخبر الأصلي سلسلة من الأخبار الجديدة لم تكن لتظهر للعيان لولا مبادرات الصحفيين ووسائل الإعلام.

وقد تتحول بعض البرامج الإخبارية مثل برامج الحوار السياسي التي تبادر وسائل الإعلام بتنظيمها إلى أحداث في حد ذاتها تخبر عنها وسائل الإعلام الأخرى وتعلّق عليها وقد تولّد هي بدورها ردود أطراف سياسية أخرى لم تشارك في الحوار وهذا ما يعبر عنه المهنيون عندما يقولون " الصحافة تصنع الحدث "  ويستعمل الخبراء مصطلح شبه أحداث pseudoévènements   وهي أحداث مصطنعة لا تنشأ عن السير العادي للمجتمع ولكنها تنتج عن مبادرة تقوم بها وسائل الإعلام التي تتجاوز دورها التسجيلي للأحداث أو تنظمها أطراف اجتماعية فاعلة في الحياة العامة بهدف جلب التغطيات الصحفية، مثل المهرجانات التي تنظمها بعض المدن والأيام التي تبادر بها المؤسسات. 

خاتمة :

 من المجتمع إلى صفحات الجرائد وأشرطة الأنباء ومواقع الصحافة الالكترونية، من الواقع إلى رواية الواقع، ينتقل الحدث من واقعة اجتماعية تاريخية إلى خبر إي إلى ظاهرة رمزية  والصحفيون بمختلف مستوياتهم في سلم القرار ومع كل ما يحملونه من نوايا حسنة ومن أفكار مسبقة ومع ما يتميزون به من كفاءة مهنية وما يستبطنونه من قيم اجتماعية أو من قيم خاصة بالمؤسسات التي يتعاونون معها، هم الذين يحوّلون الإحداث والوقائع الاجتماعية والتاريخية التي يعلمون بها اعتمادا على مصادر وشواهد، إلى أخبار ثم يعالجون الأخبار فيجعلون منها أحداث الساعة.

وتمر الأحداث الاجتماعية والتاريخية عبر غربال مقاييس القيم الإخبارية التي تدرس في كل دروس الصحافة في العالم، وهذا هو المستوى الأول مما اتفق على تسميته ببناء الحدث. ولا تتمكن الصحافة من رصد الأحداث التي تنشأ في المجتمع إلا إذا تهيأت لذلك بوضع خطة تغطية تشكل هي بدورها مستوى آخر من البناء اذ هي لا تخلو من قرارات وأحكام قبل الأوان على أهمية المواضيع التي تستحق النشر او أحقية بعض الأطراف الفاعلة في المجتمع لتكون دون غيرها موضوع تغطية صحفية، فشبكة المراسلين لا تلقتط من الأخبار إلا ما خططت وسائل الإعلام مسبقا لالتقاطه.

وتسعى وسائط الاتصال وخاصة منها التي تعتمد إيرادات الإشهار(الاعلان) إلى جلب اهتمام الجمهور وتوسيع رقعة انتشار القراء او المستمعين او المشاهدين، فتعتمد تقنيات وطرق عمل تمسرح بعض الأحداث وتضخمها وقد تتجه في بعض الأحيان إلى "صناعة الحدث" متجاوزة دورها   التسجيلي   فتصبح طرفا متدخلا في الحياة العامة لا يقتصر على رواية ما جرى مشابهة في ذلك بقية الفاعلين الاجتماعيين الذي يصنعون الحياة العامة ويخوضون صراعاتها. فهل وسائط الاتصال شاهد على ما يجدّ  في المجتمع أم طرف في ميزان القوى؟   
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   المصدر:
د.المهدي الجندوبي، من الحدث الاجتماعي الى الحدث الصحفي، مجلة الإذاعات العربية، عدد 1 سنة 2001  (ص29-35)