بحث

مصطفى بن أحمد: يوميات صحفي عادي

قبل دخول عالم الصحافة العجيب والمعقّد، كما كان يبدو لي في مخيلتي، كنت مقتنعا أن تكون صحفيا يعني أنّك مطلع على سرّ الآلهة. ويعني هذا بعبارة أخرى أنّ الصحفي يملك هذه السلطة الاستثنائية التي تسمح لك بكشف المعلومات والوصول إليها، وهو ما لا يتاح لكل شخص عادي. كنت أتصوّر أن الصحفي هو الوريث الشرعي للآلهة الأسطورية الاغريقية، بروميتي Prométhée ،الذي سرق النار ووهبها الى البشر. 

 

مصطفى بن أحمد: يوميات صحفي عادي

 

قبل دخول عالم الصحافة العجيب والمعقّد، كما كان يبدو لي في مخيلتي، كنت مقتنعا أن تكون صحفيا يعني أنّك مطلع على سرّ الآلهة. ويعني هذا بعبارة أخرى أنّ الصحفي يملك هذه السلطة الاستثنائية التي تسمح لك بكشف المعلومات والوصول إليها، وهو ما لا يتاح لكل شخص عادي. كنت أتصوّر أن الصحفي هو الوريث الشرعي للآلهة الأسطورية الاغريقية، بروميتي Prométhée، الذي سرق النار ووهبها الى البشر.

 

ولهذه الصفة يجب أن يحظى دون غيره باحترام وتقدير الجميع. اليس هو في النهاية من يملك مفاتيح السلطة الرابعة ومن يمثّلها؟

لكن بين هذه التصوّرات المثالية، والطريق المنزلقة للواقع الصحفي، هناك بحر شاسع كان من الأفضل لي أن لا أسعى الى عبوره بالمرّة.

الشعار الأول للصحفي بعد أن يكون خلع على نفسه ثوب المهنة، هي "تصرّف بمفردك كما تقدر". عليك أن تتعلّم كيف تستميت في التكيّف وإرضاء الغير و تستعمل اللغة الخشبية مضاعفة إن لزم الأمر، و تدخل البيوت من الشبابيك إذا منعت عنك الأبواب، و ان تتصاغر أمام غيرك متى يلزم، و كل هذا من أجل حصولك على المعلومة.

 

وبصفة عامة يحرص كل مصدر يملك المعلومة السرّية، على احكام اغلاق كل المنافذ التي تسمح بخروج أي بصيص من نور. وبالنسبة له فكلّ صحفي هو فضولي، عليه أن يتعامل معه بكل حذر وريبة، وأن يعطيه المعلومة قطرة قطرة، مع الاقتصار على ما يخدم مصلحة المصدر.

و اذا اكتفى الصحفي بهذا النزر القليل من المعلومات لصياغة موضوعه، و أجبر على التصرف فيما تبقى غامضا، للتغطية على نقص المعلومات، ننعته بعديم الكفاءة و بالمناور و الكذّاب، أمّا اذا سعى بأساليبه الخاصّة، لاستكمال المعلومات، و البحث عن الوجه الآخر المخفي لجبل الجليد، فتلك الفضيحة الكبرى وتوجّه الى الصحفي تهمة الثّلب، وتوجّه له كل الصفات مثل "صائد في الماء العكر" و "عميل ايديولوجيات خفية" وهي صفات يبدع مجتمعنا في كيلها.

 

عندما يحتاج مسؤول ما، الى قلمك فهو يضع نفسه كليا تحت تصرّفك، ولا يفكّ على مراودتك والاتصال بك هاتفيا ويسخّر لك سائقه، ويستقبلك في الأحضان، في كل وقت ومن غير سابق موعد. شريطة أن تصغي اليه بكل احترام واهتمام وتتركه يتوسّع في الحديث الحماسي عن مشاريعه وهي في طورها الأوّل على الورق، ويطنب في تعداد إنجازاته العظيمة.

وبعد نشر الموضوع، فقد لا يبالي بك و لا يرسل لك حتى كلمة شكر بسيطة، أما اذا تجاوزت تصريحاته حرصا على إرضاء ضميرك المهني أو ما تبقى منه، فستصلك منه عبارات لوم شديد و ملاحظات حتى من رئيسك في الجريدة.

كل المهن لها الحق في الخطأ حتى الأطباء، الاّ أنت أيها الصحفي، فكل الأنظار المتفحّصة والناقدة موجّهة اليك. فعلا هناك درجة من المازوشية عند كل من يقبل بالإقدام على هذه المهنة النبيلة.

"الحقيقة"، "الموضوعية"، "حرية النفاذ للمعلومة"، هذه كلمات...! لا يجب أن تقول الحقيقة، لكن عليك الاكتفاء بحقيقة واحدة، أو البعض منها، وهي تتلوّن وتتكيّف، حسب تنوّع الظروف وتطوّرها وتغيّر المصالح ومزاج زيد أو عمرو. وفي كل هذه اللّعبة عليك أن تغيّب صفتك الصحفية وتخنق الأنا، فأنت تفكّر للآخرين، وترى بعيونهم وان كنت تسمع بأذنيك، و مع ذلك تصلك الانتقادات و الشتائم و التّهم التي تنهال عليك، طوال اليوم.

كنت يوما في عطلة وإذا بي أعثر على مقال يحمل توقيعي، رغم أنني لم أذهب للعمل منذ فترة تزيد عن الأسبوع. فتحت ضغط حدث لم يقع التخطيط له، أجبر رئيس التحرير على إعادة نشر مقال لي صدر منذ سنة حول حدث مشابه.

هكذا الصحفي، في الحضور عليه أن يختفي أمام نرجسيات المصادر والأطراف الفاعلة، وفي الغياب عليه تحمّل مسؤولية ما ينشر باسمه لضرورات العمل. من سيصدّقك؟ بالنسبة للرأي العام، فأنت بائع أوهام ومحرّف للحقيقة، تبيع كلمات خاوية لربح الملايين. بينما أنت في الواقع تنتظر منذ أربع سنوات تسوية وضعيتك الادارية، فما هي صفتك القانونية أيها الصحفي؟ ان وجد لك قانون أساسي. دعنا من كل هذه التأملات ولنعد الى الأساس. نحن في اليوم العشرين من الشهر، وأحتاج الى عشرة دنانير أكمّل بها مصاريف الشهر، فلا تتصوّروا أنني سأتغذى من الأخبار والبرقيات وأوهام الحرّية.

 


المصدر: مصطفى بن حمد، مجلّة Réalité، عدد 368، 9-15 أكتوبر 1992. (ترجمة، المهدي الجندوبي 2023).