بحث

الهادي يحمد:الكتابة الصحفية .. مغامرة على تخوم الممنوع 2024

بقلم: هادي يحمد، كاتب صحفي (تونس)

"مغامرة" هو المصطلح الأكثر كثافة وبلاغة الذي أختاره للتعبير عن تجربتي الصحفية المتواضعة التي انطلقت منذ حوالي عشرين سنة حين تحصّلت على أول بطاقة احتراف مهنية سنة 2002. كنت أرى أن البحث عن الممنوع هو الذي يدفع العمل الصحفي،لكني اكتشفت أن الممنوع ليس فقط ما تخفيه السلطة كما كنت أعتقد ذلك وأمارسه قبل ثورة تونس سنة 2011، لكن الممنوع يتغيّر حسب الظرف، وهو أيضا ما تخفيه المصادر والأطراف الفاعلة في الحياة العامة.

في البحث عن "الربيع الصحفي"!


غلاف مجلة حقائق يعلن عن التحقيق12 جانفي 2002

تجربة اقتنعت بخطورتها ذات خريف من سنة 2002، تحديدا بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان يوم 10 ديسمبر حين اصدرت مجلة حقائق (تأسست سنة 1978) تحقيقي المعنون " هل يجب اصلاح السجون في تونس؟!" (صدر في 12 ديسمبر 2002).

وهو التحقيق الذي أثار حفيظة السّلطة وتسبب في انفصالي عن المجلة، وأدى بي الى تجربة المنفى الاختياري فيما بعد في باريس والذي أدّى كذلك الى احالتي ومدير الدورية قبلها الى التحقيق أمام وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس.

من نتائج هذا التحقيق كذلك ان سحبت كل الاشتراكات التي كانت توزّعها "وكالة الاتصال الخارجي" آنذاك ومن ثم رقابة وتضييق اكثر على المجلة التي كانت تتوفر على هامش من حريّة التعبير في ذلك الوقت.

المهم بالنسبة لي وهذا موضوع مقالي الحالي ان هذا التحقيق وتجربة الكتابة في مجلة "حقائق" في ذلك الوقت كانت "مغامرة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.


"وعلى إثر فتح ملف السجون بمناسبة الاحتفال بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة 2002، تم حجز مجلة "حقائق" التي نشرت تحقيقا في الغرض، واستدعي كاتب التحقيق الصحفي هادي يحمد من قبل وكيل الجمهورية وتكونت لجنة تقصي الأوضاع السجنية، وأعلن رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان (الرسمية) زكريا بن مصطفى عن معاينة مختلف جوانب الإقامة في السجون وأوضاع المساجين في 12 مؤسسة عقابية.

وتضمن تقرير اللجنة تحليلا لظاهرة الاكتظاظ ببعض المؤسسات السجنية وما تولد عنها من نقص في عدد الأسرة والتأثيرات الصحية والنفسية على المساجين.

وعلى إثره تم اتخاذ جملة من الإجراءات، منها مراجعة وضعية الموقوفين في انتظار المحاكمة، وتفعيل إجراءات السراح بكفالة أو بضمان بالنسبة للجرائم التي لا تمثل خطرا على أمن الأشخاص وممتلكاتهم ». (…)

المصدر:

سيدي محمد هلال،السجون في العالم العربي.. السجون التونسية نموذجا،موقع الجزيرة الالكتروني، 31/10/2008



جئت وقتها الى المجلة من معهد الصحافة وعلوم الاخبار بشهادة الدراسات المتخصصة في الصحافة (وهو دبلوم عالي فتحه معهد الصحافة لفترة قصيرة لم تتجاوز ثلاث دورات، وخصصه لحاملي تخصصات جامعية متنوعة مثل الآداب والقانون والاقتصاد باستثناء خريجي المعهد في تخصص الصحافة)، بطلب اجراء تربص[تدريب بلغة المشرق] لإتمام مذكرة ختم الدروس والتي اخترت فيها "الأشكال الصحفية في مجلة حقائق" كنموذج.

كان اختياري على "حقائق" اختيارا واعيا لدورية تتوفر على هامش مهم من حرية التعبير أو دعني أقول للسقف الأعلى لهذا الهامش في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.


مجلة ريالتي تستذكر في صفحة هويتها المهنية (من نحن)، حجز العدد الذي نشر فيه الهادي يحمد تحقيقه حول السجون


من المهم القول ان ميلي الى العمل في "الصحافة الحرّة المستقلة" كان مبنيا على شغفي في ذلك الوقت بقراءة ما اعتبره "ربيع النضال الصحفي الجميل" الذي عاشته تونس في الثمانينات من القرن الماضي، أواخر عهد مؤسس الجمهورية الحبيب بورقيبة وبداية عهد الرئيس بن علي بصدور دوريات من قبيل "الرأي" و "المغرب" و "لوفار" (باللسان الفرنسي)، كدوريات مستقلة و وأخرى حزبية من قبيل "المستقبل" و"الموقف" و"البديل" و"الفجر" ...

كنت اقضى الساعات الطوال في مكتبة معهد الصحافة وعلوم الاخبار أو"المركز الوطني للتوثيق" CDN ، أقرأ وأتمتع بالجدل الدائر وقتها حول الحريات والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد سواء في الشارع او الجامعة التونسية بين مختلف التيارات السياسية والفكرية.

بدأت تجربتي الأولى في فيلا مجلة "حقائق" التي كان مقرها أنذاك 85 شارع فلسطين بالعاصمة، معبأ بكل هذه الروح من "المغامرة" من أجل الكتابة على تخوم الممنوع واثارة جدل فكري وسياسي خفت بل أكاد القول أنه "قتل" مع نهاية التسعينات وبداية سنوات الالفين.


الكتابة الصحفية كعملية تسريب!


في مكاتب مجلة حقائق الضيقة وجدت أثار "الربيع الصحفي" المندثر. هناك التقيت برؤساء تحريري الذين تحولوا فيما بعد الى أصدقاء: زياد كريشان ولطفي حجي والطيب الزهار مدير المجلة وهناك ربطتني علاقة صداقة متينة بالكاتبة الصحفية نورة البرصالي التي اكتشفت معها نضالات الحركة النسوية التونسية والكتابة والدفاع عنها بحيث أصبحت الكتابة على "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" اختصاصا "حصريا" لي في المجلة.

وللتذكير فان كتابة اخبار الجمعية وتتبع نشاطها والقيام بحوارات مع عضواتها في ذلك الوقت كان بمثابة "مغامرة" محفوفة بالمخاطر.

من كان يكتب أخبار الجمعية وقتها في الصحف التونسية؟!! لم تكن هناك تعليمات رسيمة لعدم نشر اخبار الجمعية ولكن لا أحد تقريبا كان يجرأ على الكتابة عنها. وان حدّث وان كُتبت مقالات او اخبار فمن باب الطعن او التشهير وهو الأسلوب الذي اعتمدته السلطة في ذلك الوقت من اجل التضييق على العدد القليل من الجمعيات الحقوقية المستقلة!

ينطبق هذا الأمر كذلك على تناولي بالكتابة لأخبار الرابطة التونسية لحقوق الانسان وعمادة المحامين والجمعية التونسية للمحامين الشبان.

لم تكن الاخبار والمقالات التي نشرتها وقتها حول هذه المنظمات والجمعيات "تصنصر" ولكنها كانت تحت مراقبة شديدة لكل كلمة تُكتب.

كنت متسلحا بدربتي وبقدرتي اللغوية على "تسريب" ما اريد إبلاغه "بخبث لغوي" وبوصلتي هو المساهمة في توسيع هامش الحريات في ذلك الوقت.

أتذكر يوما محادثة لي بين زميلتين تعملان في جريدة حكومية كنت طرفا ثالثا فيها على هامش احدى الندوات الصحفية. لامتني وقتها هذه "الزميلة" انني أقوم بما وصفته "بصحافة مناضلة" مقابل ما تعبره هي "بالصحافة المهنية" التي من المفترض القيام بها من قبل الصحفي (ة)!

رسخت في ذهني هذه الحادثة الى يومنا هذا. وطرحت السؤال وقتها ومازلت اطرحه بقوة: ما هو دور الصحفي ؟! هل يكتفي الصحفي بنقل الاحداث بمهنية محايدة وبرود أم عليه ان ينتصر فيما يكتبه وينخرط في الدفاع على قيم الحريّة والعدل والمساواة؟!

ولكن هل هناك تعارض بين المهنية وبين الدفاع عن قيم الحريات؟!

طبعا الصحفي(ة) في اعتباري ليس مجرد كاتب عمومي. ومهمته أي نعم نقل الاخبار والقيام بالتحقيقات والربورتاجات وكتابة مقالات الرأي من أجل الاخبار، ولكن مهمته أيضا من اجل النهوض بمجتمعه الذي يعيش فيه والمساهمة في تكريس قيم الحريات وحقوق الانسان.

في واقع يتسم بالتضييق على حرية التعبير، يعتبر حمل هذه القيم بمثابة كتابة "صحفية مناضلة" او هي كتابة على تخوم الممنوع، وما أجملها من وظيفة. هي كتابة هادفة مشوقة تكون فيها الكلمات او الصوت والصورة والتقارير التلفزية والاذاعية بمثابة "أسلحة" تتطلب براعة استعمال وقدرة على "تسريب" المعنى بحرفية وبأكبر قدر من الكثافة للمتلقي.

كانت هذه "مهمتي" في تحقيق "هل يجب اصلاح السجون في تونس؟" وقبله تحقيق "أن تكون بهائيا في تونس" أو "ريبوتاج "تفجير الغريبة" او تحقيقات وريبورتاجات أخرى انجزتها في "حقائق" حول يهود تونس او والتونسيون الذين اعتقلوا في قوانتنامو "تونسيون في قوانتنامو" وغيرها من الريبورتاجات والتحقيقات.


في البحث عن "البوصلة" الصحفية ؟!


من المفارقات الطريفة في تجربتي ان التطرق الى المواضيع "الممنوعة" أدى بي في تجربة أولى إلى الحصول على جائزة أفضل تحقيق صحفي سنة 2002 من قبل" جمعية الصحفيين التونسيين" [التي ستتحوّل لاحقا إلى نقابة]، عن تحقيق بعنوان "المحكومون بالإعدام في تونس : رحلة في دهاليز الموت" فيما أدى بي التحقيق الثاني والذي اتيت على ذكره الى المحاكم والمنفي!

هناك "لذة الكتابة" في التطرق الى المواضيع المحرمة او الممنوعة وهي التي كانت تزيدني رغبة في العمل الصحفي. وهنا من المهم القول ان التطرق الى المواضيع المحرمة او الممنوعة لا يقصد منها مجرد "الاثارة" ولكنه كان بهدف معنوي ورسالة ضمنية وهو الدفاع عن قيم الحريات وحقوق الانسان.

فلا أجد شخصيا أي أهمية لاي عمل صحفي او تلفزي أو إذاعي يرمي الى التطرق الى المواضيع المحرمة او الممنوعة بغية تكريس القمع الأخلاقي أو السياسي في تناقض كامل مع قيم الحريات والمساواة الكاملة بين النساء والرجال او تكريس رؤية دينية أخلاقية واجتماعية تتناقض مع قيم حقوق الانسان في عالميتها. هذه بوصلتي المعنوية في العمل الصحفي.

عندما جاءت "الثورة"في تونس(17 ديسمبر-15 جانفي 2011)، طرحت على نفسي - وانا العائد الى البلاد - بعد غيبة حوالي عشرة سنوات: ما هو دور الصحفي اليوم في واقع يسمح بالكتابة في كل شي دون محرمات او ممنوعات؟! لازمني هذا السؤال طوال السنوات الأولى من التغييرات الجذرية التي شهدتها البلاد.

عدت الى تونس سنة2011و قد اندثرت مجلة "حقائق" في صيغتها كمجلة شبه نخبويّة وتحولت الى جريدة "شعبية" بنفس التسمية.. 

ربّما بسبب هذا الاتجاه "الشعبي" لحقائق في نسختها الجديدة قمت بتأسيس موقع "حقائق أون لاين" في مارس سنة 2013، ليكون مساحة جديدة لي ولتطلعاتي لصحافة جادة وأقل "شعبية".

غير ان تجربة الإعلام الإلكتروني - التي اعتقد انها مستقبل الصحافة في العالم- اصطدمت بتحدّ قد لا تعاني منه "الصحافة الورقية الشعبية" وهو كيفية الاتيان بموارد من اجل تحقيق التوازن المالي للمؤسسة.

في الحقيقة فان سوق الاشهار الإلكتروني لا توفي، حتى الان وعلى الأقل في تونس، بحاجيات الصحافة الإلكترونية وقدرتها على المنافسة والديمومة وهو الامر الذي قد يتحقق في المستقبل اسوة بتجارب أخرى غربية وحتى مشرقية.

وعودة الى تجربتي الصغيرة في جريدة حقائق بعد الثورة وبمثابة "الانتقام الرمزي" للتحقيق حول السجون الذي "اخرجني" من البلاد وقتها قمت بريبورتاج من داخل سجن "المرناقية" بعد الحصول على التراخيص اللازمة وأجريت مقابلات مع بعض المساجين المحكومين بالإعدام والمثليين والمصابين بنقص المناعة المكتسبة. كان عنوان الريبورتاج "مربع المحرمات في المرناقية" ونشر في جريدة حقائق بتاريخ 7أكتوبر 2011. مرّ هذا الريبورتاج في صمت في زخم كسر كل المواضيع المحرمة التي سادت وسائل الاعلام التونسية في السنوات الأولى للثورة.

فهمت بعد ريبورتاج سجن "المرناقية" وقتها معنى الكتابة عن الممنوعات والمحرمات زمن التضييق والقمع الإعلامي! ما معنى ان تكتب في زمن الحرية ؟! كان هذا سؤال اخر تبادر الى ذهني. هل ينتهي العمل الصحفي في زمن الحريات ؟! بالتأكيد لا. بل أكاد أقول انّ في هذا الزمن، زمن البناء والحريّة يبدأ عمل الصحفي والاّ لا معنى لكل وسائل الاعلام التي تعمل اليوم في البلدان التي تصنف على كونها ديمقراطيات عريقة.



حقائق 7 أكتوبر 2011
الجزء الأول من التحقيق

حقائق 7 أكتوبر 2011
الجزء الثاني من التحقيق


في هذه المرحلة الجديدة انضممت الى "شبكة اريج" للصحافة الاستقصائية ومقرها الأردن. وشاركت في العديد من دوراتها التدريبية ضمن هذا الدور الذي ازداد أهمية للصحافة باعتبارها وسيلة مراقبة ومواجهة ومحاسبة. هنا دور الصحافة الاستقصائية التي تراقب تفضح التجاوزات الاختلالات وتطالب بالكشف والمسائلة اسوة بدور الصحافة في العديد.


في الاختصاص الصحفي


كانت هذه المرحلة بالنسبة لي هي إعادة تحديد الأولويات حول وظيفة العمل الصحفي. ما الذي يمكن ان أقدمه؟ وبأية وسيلة ؟

جوابا على السؤال الأول انصبّ اهتمامي على متابعة ما اعتبره تحديا مهما لما سمي وقتها "مرحلة الانتقال الديمقراطي" في تونس (2011-2021).

كان "الإسلام السياسي" في تشكيلاته المتنوعة أحد أهم التحديات لهذه المرحلة وخاصة ان الأحزاب الدينية وصلت الى السلطة تقريبا في كل بلدان ما أطلق عليه "بثورات الربيع العربي".

كان اختصاصا صحفيا جديدا بالنسبة لي متسلحا بمعرفة ومتابعة جيدة لواقع جماعات الإسلام السياسي في اروبا وعملي كمراسل "لموقع اسلام اون لاين" في باريس.

طوال عملي في العديد من العواصم الاوربية حول ملف الجاليات العربية والإسلامية وتعاطي الاعلام الغربي مع الظاهرة الإسلامية، قابلت العديد من المختصين الغربيين في الحركات الإسلامية من قبيل "أوليفي روا" و"جيل كبيل" ..

وأجريت مقابلات مع العديد من قيادات الحركات الإسلامية من قبيل راشد الغنوشي[زعيم حزب النهضة] حينما كان في بريطانيا وصدرالدين البينوني المرشد العام لحركة الاخوان المسلمين في سوريا وهاني السباعي أحد قيادات تنظيم الجهاد المصرية اللاجئ في لندن ومدني مرزاق الأمير الوطني للجيش الإسلامي للإنقاذ بالجزائر (قابلته في منزله في حي براقي في ضواحي الجزائر سنة 2007) والمفكر السويسري من أصول مصرية طارق رمضان..

كما قمت بريبورتاجات وتحقيقات في مناطق وتجمعات كبرى معروفة بتركز الجاليات العربية والإسلامية فيها من قبيل "حي مونبليك" بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، وبسبب اخذ صور ليلا أمام "مسجد نهج ميرا" في الدائرة "الثامنة" عشر من باريس ، من اجل إنجاز ريبورتاج صحفي حول أجواء رمضان في باريس، داهمني بعض الشباب (المسجد كان أحد معاقل جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية).

أيام هذه التجربة سافرت الى مدينة "قوتنبرق" السويدية لإجراء مقابلة مع أحد العائدين من المحاكم الإسلامية الصومالية وقمت بريبورتاج عن "مسجد فسنبري" بارك في لندن معقل أبو حمزة المصري والذي يعدّ احد ابرز أعشاش تنظيم القاعدة في سنوات التسعينات كما سافرت الى العديد من عواصم المشرق من قبيل اسطنبول وبيروت ودمشق وعمان...

كان العمل على ملف "الجماعات الإسلامية" في تونس وخارجها اختصاصا جديدا لي بعد عودتي الى تونس.

في شهر ماي 2011 بضاحية سكرة بتونس العاصمة، قمت بنشر اول مقال يتحدث عن تنظيم مجهول للتونسيين وقتها اسمه "أنصار الشريعة"[سيقع تصنيفه لاحقا منظمة إرهابية في تونس ويكون ضالعا في عدة عمليات إرهابية]. قمت بعدها بنشر حوار مطول هو الأول من نوعه في وسائل الاعلام التونسية وقتها مع سيف الله بن حسين (أبو عياض التونسي)، مؤسس "أنصار الشريعة" في تونس.

سوف يتفطن العديد من التونسيين الى جدوى الاشتغال الصحفي على هذه الظاهرة بعد احداث السفارة الامريكية في ديسمبر 2012 وما تلاها من اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية سنة 2013 وما بعدها.

كان ملف "الجماعات الإسلامية" في قلب "المغامرة" الصحفية الجديدة بالنسبة لي. فلذّة الكتابة الصحفية هنا تأخذ جذوتها من "الممنوع" مرة أخرى. لم تعد مغامرة بحث أو كشف عن ممنوعات "النظام" ولكنها أصبحت كشف ممنوعات ومحظورات "الجماعات".

هنا الكتابة الصحفية تأخذ قيمتها واهميتها من الشغل على تخوم "الخوف" وهو الذي يمنحها قوتها.

ولأن الكتابة الصحفية هي "مغامرة" على تخوم الممنوع وهي تتحدى الخوف ومنه تكتسب "لذتها" قراءة وكتابة، أصبحت القصة الصحفية الواقعية المشوقة هدف ابحاثي في تجارب شباب الحركات الجهادية.

كنت بمثابة "الصياد" الذي يبحث عن مثل هذه "الطرائد" لا من اجل الرواية والتشويق فحسب بل من أجل البحث عن الأسباب التي تدفع شباب في عمر الزهور الى الانخراط في تيارات العنف الديني خاصّة وأن العمل السياسي العلني والمدني كان متاحا في تونس على طوال عشرية 2011-2021؟

طرحت حينها السؤال حول كيفية المعالجة الإعلامية لقضايا الإرهاب؟ عن كيفية تجنب الترويج المجاني لأيديولوجيا هذه الجماعات، في ذات الوقت الذي امنح فيه القارئ كل الاليات الممكنة لفهم الظاهرة دون توجيه وتعسّف على حرية تفكيره او السقوط التوجيه المبتذل للقارئ.


مغامرات الصحفي - الكاتب

أتذكر ان أولى "المغامرات" الصحفية في هذا الاطار التي قمت بها كانت سنة 2007 بين مدينتي "قوتنبورق" (السويد) ومدينة القاهرة.

وقتها سافرت الى السويد للقاء أحد الشباب العرب الذين انخرطوا في القتال الى جانب جماعة المحاكم الإسلامية في الصومال والذي هرب بعد التدخل العسكري الاثيوبي حيث ضاع عدّة اشهر في غابات السافانا بين الصومال وكينيا!

ذات الشخص أوصلني الى قصة شاب اخر قبضت عليه القوات الاثيوبية ومن بعدها رُحّل الى القاهرة حيث التقيته في شقة صغيرة في منطقة الدقّي.

عاودت نشر مجموع القصص الصحفية هذه فيما بعد في كتابي الذي صدر تحت عنوان "تحت راية العُقاب" (صدر سنة 2015) مع مجموعة أخرى من القصص والتحقيقات حول نفس الظاهرة.

 
تحت راية العقاب، الديوان للنشر، 2015


كان كتاب "تحت راية العقاب" أول اصداراتي التي تأسست على العمل التحقيقي والبحث الصحفي وبها انفتح أمامي باب كبير من التساؤلات حول الحدود الفاصلة بين وظيفة "الصحفي" الذي ينشر اعماله في الصحف او في وسائل الاعلام الأخرى ووظيفة "الكاتب".

في الحقيقة لم أتردد كثيرا في اعتماد منهج "توثيق" اعمالي الصحفية ذات الموضوع الواحد في كتاب جامع. ذلك ان الرجوع الى مقال او تحقيق ضُمّن في كتاب اسهل من البحث المُضني عن مقال في عدد قديم لصحيفة من بين الالاف من الجرائد الاخرى. ثم ان هذا التقليد أي الكتابة الصحفية في اطار مؤلفات كان تقليدا معتمدا في الكثير من البلدان الاوربية وخاصة في المجال الإعلامي الفرنسي حيث مارست عملي لأكثر من عقد وهو شائع أيضا أكثر من تونس في بلدان عربية أخرى.

كان كتاب "تحت راية العقاب" جمعا للعديد من التحقيقات والريبورتاجات والحوارات والوثائق التي يجمع بينها خيط ناظم هو نشأة التيار السلفي الجهادي في تونس وتطوره.

ضمن هذا الاتجاه الجديد في تجربتي الصحفية أي الميل الى التوثيق الصحفي لما انتجه واتخاذ وعاء اخر غير النشر في الدوريات كان صدور كتابي "كنتُ في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية" (2017). على خلاف الكتاب الأول المكون من عدة تحقيقات وريبورتاجات وحوارات يربط بينها الموضوع الواحد فان "كنت في الرقة" اعتمد قصة واحدة متكاملة هي اشبه بالبورتريه المطول لشاب تونسي هاجر الى سوريا وخاض تجربة مع تنظيم "الدولة الإسلامية".

 
كنت في الرقة، هارب من الدولة الإسلامية، نقوش عربية 
 .2017، تونس، 259 ص.


تقديم كتاب كنت في الرقة ويكيبيديا


نادر الحمامي، مونودراما «هارب من الدولة الإسلاميّة»... «هارب من النصّ»، جريدة المغرب 23-12-2020.


ربما أهمية الكتاب، ذا الأسلوب القصصي الروائي، انه كان بمثابة "مغامرة" صحفية متكاملة الابعاد والتفاصيل. وهي "مغامرة" على تخوم "الخوف" و"الممنوع".. الخوف من لقاء صحفي لشاب كان في تنظيم إرهابي وممنوع باعتبار ان الشغل كان على عتبات الممنوع او غير المتاح بما ان استنطاق شاب كان في تنظيم إرهابي واخذ تصريحات منه وسرد اعترافات كان من باب " الممنوعات" حتى لا أقول حافة "الاستحالة".


حكيم بن حمودة

المغرب 10-4-2017


الا ان الكتاب الحدث في هذا المعرض كان بدون شكّ كتاب الصديق هادي يحمد «كنت في الرقة، هارب من الدولة الاسلامية» والصادر عن دار نقوش عربية لصاحبها الصديق المنصف الشابي وقد كان هذا الكتاب حدثا هاما ومميزا فقد لاحظت لاول مرة في تاريخ معرض الكتاب طوابير طويلة من المواطنين أمام جناح دار نقوش عربية في انتظار شراء نسخهم من هذا الكتاب،وكانت الابتسامة تعلو محيا كل من نجح في الفوز بنسخة من هذا المؤلف وكأنه فاز بصيد عظيم هذا الاقبال يجعل الكتاب في نسخته الاولى يستنفد في بضعة أيام.

وقد قضيت بعض الوقت مع الصديق هادي يحمد في جناح نقوش عربية للحديث معه عن هذا الكتاب وظروف انجازه وتعرّفت على الهادي ومنذ سنوات في اروقة مجلة حقائق حيث كان قلما مميزا و قام بعديد التحقيقات الصحفية التي جلبت له الاحترام وكذلك الاهتمام وقد طالعت مقالاته خاصة تحقيقاته الصحفية الهامة حول مواضيع صعبة ودقيقة منها التحقيق الذي نشره سنة 2002 حول المحكوم عليهم بالاعدام في السجون التونسية وقد نال عن هذا التحقيق جائزة جمعية الصحافيين التونسيين.

وقد عرف الهادي بن يحمد بصفة خاصة بتحقيقه حول الاوضاع السيئة للسجون التونسية والذي نشرته مجلة حقائق في ديسمبر 2007 وقد اثار هذا التحقيق انذاك سخط السلطة مما ادى بها الى حظر المجلة من نقاط التوزيع واضطر الصحافي الى اللجوء الى الخارج ولم يعد الا بعد الثورة.

وقد خاض منذ رجوعه العديد من التجارب الصحفية ولعل من أهمها تأسيس موقع حقائق اون لاين والذي أصبح مرجعا إعلاميا معروفا بجديته وحرفيته ليصير احد أهم المواقع الإعلامية في بلادنا.

إلا أن الهادي يحمد خيّر في السنوات الأخيرة الابتعاد عن العمل الصحفي اليومي للتركيز على العمل البحثي في الحركات الاسلامية وبصفة خاصة الحركات الجهادية والتي هي مجال تخصصه.

وقد اصدر في هذا المجال عديد المقالات والدراسات التي تشهد له بدراية كبيرة ومعرفة هامة في هذا المجال ليصبح اهم الاخصائيين في بلادنا في هذا المجال وقد اصدر كتابا مرجعيا سنة 2015 تحت عنوان «تحت راية العقاب سلفيون جهاديون تونسيون» عن دار الديوان وهذا الكتاب هو عبارة عن دراسة سوسيولوجية مع العديد من الشبان الذين التحقوا بتنظيم الدولة لفهم دوافع وأسباب هذا الانتماء السياسي والمغامرة العدمية.

وينخرط هذا الكتاب الجديد في نفس الإطار في البحث السوسيولوجي من خلال لقاءات مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلا أن الكاتب قرر الاكتفاء في هذا الكتاب بسرد حكاية احد هؤلاء الشباب الذي قرر الالتحاق بما يسمى بالدولة الإسلامية ليصبح احد اعتى مقاتليه وليقضي سنتين في الرقة قبل ان يقرر الهرب وقد قضى الكاتب ساعات طوال في الحديث مع هذا الشاب ليسرد بعد ذلك حكايته في هذا الكتاب الحدث.

 


ملاحظات منهجية لاقتناص "الممنوع"

اليوم وبعد حوالي خمس سنوات من صدور الكتاب اراني اطرح السؤال حول أسباب نجاح إنتشار الكتاب. هل ان نجاحه كان نتيجة اجتماع هذه العناصر التي ذكرتها سابقا أي كسر حاجز الخوف والذهاب الى تسجيل شهادة غير متاحة؟ هذا ربّما ما نعرفه "بالسبق الصحفي" في عالم الاعلام. ولكنه سبق غير مرتبط بمقالة او تحقيق ولكنه خرج في شكل كتاب يدرجه البعض ضمن "الاعمال الاستقصائية". وفي هذه النقطة بالذات تستوقفني بعض الملاحظات المتعلقة بمنهج البحث الذي انتج هذا الكتاب.

أولى هذه الملاحظات ان الوصول الى المصدر - وهو في هذه الحالة الشاب التونسي الذي هرب من تنظيم داعش - كان منذ البداية مبنيا على هوية مكشوفة أي تعريف نفسي كوني صحفي أبحث في ظاهرة الشباب التونسيين الذين هاجروا الى ما يعتقدونه "جهاد". لماذا التنصيص على هذا الامر؟ لسبب مهم وهو ان العديد من الصحفيين - ربّما في مرحلة معينة من البحث - يخفون هويتهم الصحفية اعتقادا منهم ان ذلك يسهل عملهم ويوصلهم بسهولة الى ما يريدونه.

في اعتقادي وانطلاقا من التجربة التي خضتها انه كان الاسلم من أجل بناء "علاقة الثقة" مع الهدف هو اعتماد الشفافية والوضوح في علاقتنا بالمصدر.

الملاحظة الثانية وهي المرتبطة بقدرة الصحفي (ة) على اقناع مصدره بجدوى اخذ تصريح او اعترافات. فكيف يمكن ان تقنع شابا كان في داعش ان ما سيقوله هو مهم له ولآخرين في سياقات عادة ما تكون غير ملائمة من قبيل تلك المقولات الشائعة والتي تقول ان "وسائل الاعلام غير محايدة" و"غير ذات مصداقية" ولا "أهمية للتعامل معها باعتبارها تشوه الحقائق وتنشر الأكاذيب". في هذه الحالة ما الذي يمكن ان تقدمه لمصدرك من حجج وبراهين لإقناعه بخلاف ذلك!

الملاحظة الثالثة وهي المتعلقة بالعمل الذي ستقوم به. في هذا الباب من المهم طرح سؤال: ما الذي سأقدمه من جديد للقراء؟! وبايّ أسلوب وماهي الرسائل التي اريد ايصالها عبر مثل هذا لقاء.

ربما استطاع كتاب "كنت في الرقة" الإجابة على مثل هذه التساؤلات وهو الامر الذي فصّلته في مقدمة الكتاب موضحا بأكثر تفصيل المنهجية التي اعتمدتها في بنائه.

جبة الاختصاص وسجنه!

مغامرة كتاب "كنت في الرقة" بالذات، البسني لباسا جديدا إضافة الى صفتي الصحفية التي لم اتخلى عنها يوما، وهو صفة "الباحث" وهنا طرحت السؤال حول الحدود الفاصلة بين ما هو صحفي وما هو عمل بحثي أكاديمي؟!

بعد تجربة كتاب "كنت في الرقّة" بالذات وبعد تجربة حوالي خمس سنوات من الاختصاص في الحركات الاسلامية تفطنت الى "السياج الصحفي" الذي صنعته حولي ك"مختص".

نعم اعتقد بالاختصاص الصحفي الذي هو تقليد في العديد من المدارس الصحفية وكبريات وسائل الاعلام العالمية ، ولكني أميل أيضا الى تجربة الاثراء والتنوع وعدم الانغلاق في ظاهرة أو اختصاص معين. لهذا السبب انخرطت في تجربة جديدة عنوانها الحريات العامة والفردية بإصدار كتابي "يوم جاؤوا لاعتقالي" (2019) بدعم من الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان.

الهادي يحمد، يوم جاؤوا لاعتقالي، نقوش عربية 
 الفدرالية العالمية لحقوق الانسان، تونس، 2019 

"يسرى الشيخاوي: عرض كتاب يوم جاؤوا لاعتقالي".. الإنسانية في مواجهة كل الوسوم


عبر تجربة كتابة "البورتريه" كجنس صحفي واتخاذ نماذج مختلفة من تونسيين ينتمون الى فئات وميول واديان واتجاهات مختلفة دافعت إعلاميا عن القيم التي اؤمن بها من قبيل الحرية والمساواة والعدالة.

وأنا اكتب هذه الكلمات اليوم في شقة باريسية صغيرة في الطابق السادس، لا اعلم تحديدا "مغامرتي" الصحفية القادمة. بعض هذه القصص والمغامرات كُتب ودُوّن، وبعضها او هامشها بقي عالقا في الذاكرة يأبى التدوين لينتهي في أدراج النسيان.


حقائق 12-12-2002



حقائق 12-12-2002






تحقيق إصلاح السجون نشره الهادي يحمد في مجلة حقائق عدد 885 من 12 إلى18، ديسمبر 2002، ص 10-13


هل يجب إصلاح السجون
في تونس؟


رغم إقرار قانون جديد يتعلق بنظام السجون ورغم تحويل مهمة لإشراف على السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل وحقوق الإنسان فإن الوضعية في السجون ما تزال تثير أكثر من تساؤل وخاصة ما تعلق بدورها الإصلاحي المفترض وحدود السياسة العقابية وضرورة توفر الظروف الدنيا التي تحفظ كرامة السجين .. هذا التحقيق يبحث في تفاصيل الحياة السجنية الراهنة وهو دعوة لفتح ملف السجون للنقاش العام..

إحذر من البوفراش”.. كانت من الجمل التي ترددت كثيرا على مسامعي في أول أيامي في الغرفة 3 من الجناح H بالسجن المدني ب 9 أفريل -يقول عادل ج- (29 سنة)، كانت أول تجربة لي في السجون أما تهمتي فهي محاولة الإبحار خلسة إلى البلاد الإيطالية بقارب صيد مسروق.. عندما أقوم صباحا كنت أبحث عن “البوفراش” بين شعري ويدي. “ البوفراش” بالنسبة لكل روّاد السجون حشرة صغيرة تلتصق بلحم السجين و تتخذ لها منابت الشعر مكمنا تمتص من خلاله الدماء “بشراهة”.

لم تمض بعض أيام داخل الغرفة يقول عادل “ حتى استسلمت للأستنزاف البوفرّاش و البق والقمل لأن همي كان منصبا على إيجاد مكان بين الأكداس لأتخذه مرقدا، فالغرفة التي تتسع بالكاد لستين يحتلها من أدناها إلى أقصاها أكثر من مئتين و ثمانين سجينا.

قال لي “ الكيران شمبرا” وهو سجين مسؤول عن نظام الغرفة“ عليك أن تقنع “بالكدس” إلى أن يحين دورك ربما بعد سبعة أشهر لتتحصل على فراش يشارككك فيه ثلاثة آخرون”.

الإكتضاظ : الدابة السوداء

المسرّوحون من السجون في تونس يقولون أن هناك مشكلا حقيقيا يتمثل في هذا الإكتضاظ الذي لا يجد بمقتضاه النزيل الجديد في السجن فراشا خاصا به، فرغم أن الفصل 15 من القانون الجديد المتعلق بنظام السجون والمؤرخ في 14 ماي 2001 يقول إن “... على إدارة السجن أن توفر لكل سجين عند ايداعه فراشا فرديا وما يلزمه ىمن غطاء”. فإن السجين الجديد مطالب بأنّ يمرّ على الأقل بمرحلتين المرحلة الأولى تتمثل في الإنضمام إلى العشرات من مفترشي الأرض من الذين يحتلون الممرات بين الأسرّة وفي الحالات القصوى فإن “الكدس” يتحول إلى طريقة في النوم يطالب فيها السجين بالاختيار بين النوم على جنبه الأيمن أو الأيسر حتى يتسنى لرفيقه في الكدس أن يجد له مكانا بجانبه.

في الغرفة المخصصة للإستقبال المحامين لمنوبيهم بسجن 9 أفريل بالعاصمة دخل السجين”ابراهيم”(47 سنة) على محاميته الأستاذة نجاة اليعقوبي وقد بدت عليه بعض علامات الإرتياح “لقد انتقلت من وضعية “الكدس” إلى وضعية “الكميونة”!!

طبعا لم تهتم المحامية بما قصده منوبها “بالكميونة” وقد أوضح فيما بعد بأنّ” الكميونة” هو المكان الذي يلي “الكدس” وهو مكان النوم الذي يتوسط سريرين أو هو يأتي تحتهما “فهو لا يجبرني نهارا على القيام و التنحي جانبا مثلما يفعل أهل “الكدس” حتى يسمحوا لنزلاء الغرفة بالتنقل بين جنباتها”.

محظوظون هم الذين يتحصلون على سرير وقد يتطلب الأمر فترة زمنية قد تطول ستة أشهر أو سبعة يكون فيها الحصول على “البلاطة” أو “سرير” رهين الأقدمية كما يقول “ الكبران شامبرا” الذي يدون في دفتره فترة دخول كل سجين وهو يمنح الأسرة في أحيان كثيرة طبقا لعلاقاته الشخصية ولمن يدفع أكثر فثمن السرير قد يصل في غرف الإكتظاظ الشديدة إلى خمسين دينارا أو ربما في أفضل الإحتمالات بعشرين علبة سجائر من النوع العادي.عدم الحصول على سرير خاص، كما يقره القانون المتعلق بالسجون، يشير بما لا يدع مجالا للشك إلى عدم ملاءمة البنية الأساسية للسجون للأعداد الوافدين عليها من المساجين.

ففي احصائيات وضعها “المركز الدولي للدراسات السجنية” التابع لجامعة كامبردج البريطانية ىهذه السنة، حدد عدد المساجين في تونس ب23.165 سجين وقد أشارت هذه المنظمة التي تعني بالسجون في العالم أنه في كل مائة ألف نسمة في تونس هناك 253 سجين ومقارنة ببلدان تشابهنا نفس الظروف الإجتماعية والإقتصادية نجد أن عدد المساجين في كل مئة ألف نسمة يبدو مرتفعا نسبيا في تونس، ففي المغرب مثلا والتي تحتوي على 54.228 سجين من جملة 28.4 مليون نسمة نجد هناك 191 في كل مائة ألف نسمة، أما في الجزائر التي تحتوي على 34.234 سجين من جملة 30.8 مليون نسمة نجد 111 سجين عن كل مائة ألف نسمة.

الأرقام التونسية لا تتجاوزها في القارة الإفريقية، إلا المعدلات في دولة جنوب إفريقيا التي تحتوي على 176.893 سجين من جملة 43.8 مليون نسمة، نجد فيها 404 سجينا لكل مائة ألف، أما في نيجريا ذات الكثافة السكانية العالية فنجد أن عدد المساجين فيها يبلغ 39.368 سجين من جملة 116.6 مليون بنسبة 34 سجينا لكل مائة ألف.

من الواضح أن هناك اكتظاظا للمساجين في تونس و لكن ما هي أسبابه الحقيقية؟ رغم أننا نملك في بلادنا 27 سجا موزعة على مختلف ولايات الجمهورية و 4 إصلاحيات و6 مراكز للعمل التربوي، فإنه من البين بالنسبة للعديد من الإخصائيين أن البنية الأساسية لهذه السجون لا تمكن من استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من الوافدين الجدد وهو ما دعا مؤخرا إلى التفكير في بناء سجن جديد خلفا لسجن 9 أفريل الذي لم يعد يفي بالحاجة .فهذا السجن و الذي وقع إنشاؤه سنة 1909 لا تتجاوز طاقة استيعابه ال1500 سجين أصبح في السنوات الأخيرة يحوي ما لا يقل عن ال6000 سجين والأمر بالمثل بالنسبة للسجون الكبرى بالجمهورية كسجن برج الرومي والناظور وصواف وصفاقس والمهدية والكاف وحربوب والهوارب.....

ربما هذا الإكتظاظ يفسر كذلك بالنسبة للأستاذ سامي نصر المختص في سوسيولوجيا الحياة السجنية بعدم التفكير في سياسة عقابية جديدة، وفي الواقع فإن “برنامج العقوبات البديلة” الذي أذن رئيس الدولة بتطبيقه يأتي في هذا السياق.أسباب الإكتظاظ تعود أيضا بالنسبة للأستاذ نصر إلى أن السنوات الأخيرة شهدت طفرة من الجرائم المالية (قضايا شيكات) ففي السنوات الأخيرة يضيف الباحث وبعد أن كانت جرائم السرقة والإعتداء على المكاسب والأشخاص تحتل صدارة الإحتراف الإجرامي برزت الجرائم المالية لتمثل جزءا مهما من عدد القضايا.

تقول احصائيات وزارة العدل أن الجرائم المالية بلغت نسبتها خلال سنة 2001 ما يوازي 36.70% من مجموع القضايا. وإضافة إلى الجرائم المالية والتي ضخمت من عدد الوافدين على السجون فإن الأستاذة نجاة اليعقوبي تقول إن قضايا المخدرات ساهمت أيضا في هذة “التخمة السجنية””فإذا مكنا كحل عملي متعاطي المخدرات من إيوائهم ضمن المراكز الإستشفائية وهو الأمر الذي يتيحه الفصل 19 من قانون المخدرات و الذي يقول “إنه يمكن للمحكة المتعهدة في صورة الحكم بالإدانة إخضاع المحكوم عليه بالعلاج”، فإنه يمكن في رأيى التخفيف من حدّة الإكتظاظ.

طبعا يمثل الحدّ من نسبة الإجرام وخلق الإطار الثقافي والإجتماعي والإقتصادي السليم خارج السجن أبرز الوسائل للحدّ من الإكتظاظ داخل المؤسسة السجنية و الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى أمراض صحية ومشاكل نفسية قد ترافق السجين حتى بعد عودته إلى الحياة الإجتماعية من جديد.

رسائل من السجون

أنظر إنّي لن أستطيع التنفس جيدا دون هذه العلبة الزرقاء” يقول كمال ب(33 سنة)، في إشارة إلى دواء يقتنيه شهريا من الصيدلية مخصص لتسهيل التنفس.. دواء ضدّ”الفدّة” . فبعد ست سنوات قضاها في سجن “ الهوارب” بضواحي القيروان مورطا في قضية مخدرات خرج كمال”بقايا حطام” كما يصف نفسه ىففي غرفة يتجاوز عدد أفرادها المائتين لا يمكنك أن تفرض نظام عدم التدخين أو أن تطلب من “ الكبران شمبرا” أن يمنحك مكانا في المناراتأو “ المنازه” في الإشارة إلى “البلاطات” أو “االأسرة” التي تحاذي الشبابيك.شكوى “كمال” الشفوية” من “حطام رجل” غادر السجن قد لا تعادلها إلا تلك الرسائل التي تهرب من حين إلى أخر من بعض السجون إلى الأهل و المحامين لتكشف بعضا من معيشة جدّصعبة . ففي رسالة “مهربة” من سجن صفاقس بتاريخ 9 مارس من هذه السنة وجهها صاحبها يقضي عقوبة بثلاثين سنة من أجل تهمة “تحيل و اغتصاب” إلى أحد محاميه، يقول أنه و رغم تحسن وضعيته عما كانت عليه في الأسابيع الأولى “فإن حالة عصبية أصبحت تنتابني من جراء الضوضاء و كثرة التدخين والمعارك التي تحصل بين الحين والأخر بين “حومة الملاسين و” الزهروني” (في إشارة إلى الترابط الجهوي و العشائري المكرس في عنابر السجن).

يتحدث سجين الحق العام هذا عن سجين “صبغة خاصة” أصيب بمرض نفسي جعله دائم الصياح و لكنه وبالرغم من ذلك يعامل بإعتباره سويا، وتواصل الأمر كذلك لمدة أكثر من شهر تفطن بعدها طبيب السجن أن الأمر يتعلق بمرض جدي.

محجوب ثليجان (35 سنة) أحد الحالات التسعة من الموتى الذين رحلوا إلى العالم الأخر نتيجة الظروف السجنية غير الملائمة سنة 2001. فسجين الحق العام هذا زارته والدته بسجن الكاف في آخر مرة ولاحضت عليه علامات الشحوب فأعلمها أنه يعاني منذ مدّة من إرتفاع درجة الحرارة وحالات غثيان لا يعلم مأتاها وبالنظر إلى الإمكانيات الطبية المتواضعة في السجن المذكور .حمل محجوب في شهر جوان من نفس السنة إلى مستشفى الرابطة بالعاصمة حيث أدخل إلى قاعة العناية المركزة. كان يوم أربعاء على الساعة السادسة صباحا، تقول أمه عندما غادرنا محجوب إلى غير رجعة.. مازالت الأم تتذكر تلك الأغنية التي كان يرددها على مسامعها من وراء “قضبان سجن الكاف أثناء الزيارة”. أغنية المزمومة“ الحزينة ..” أيام الحبس مسطّرة ومعدودة ..أيام الحبس مظلمة ومسكونة”.

هادي يحمد



قاضي تنفيذ العقوبات : أيّ مهمّة ؟



بعد حوالي سنتين من إحداث خطة قاضي تنفيذ العقوبات، قامت وزاغرة العدل بدراسة تقييمية لدوره وحصيلة عمله مشيرة إلى أن هذه الوظيفة الجديدة ىساهمت إلى حدّ كبير في ربط الصلة بين بعض المساجين و عائلتهم المنقطة عنهم كما ساعدت على تمتيع بعض المساجين بمقابلة أهاليهم دون حواجز، هذا إضافة إلى نقلة مساجين لغاية تقريبهم من عائلاتهم وفي خصوص مسألة الإكتظاظ والتي ىتمثل أبرز عوائق المؤسسة السجنية والتي تحول بينها وبين أداء مهامها. قالت الدراسة أن قاضي تنفيذ العقوبات ساعد في تحسين ظروف الإقامة بالسجن بتقديم مقترحات بخصوص الأنشطة الممكن توفرها لفائدة المساجين ىواستجابت إدارة السجن لمقترحاتهم كما لفت قاضي تنفيذ العقوبات النظر إلى بعض الوضعيات الصحية والجزائية للمساجين وأمكن تبعا لذلك تمتيعهم بالسراح الشرطي للأسباب الصحية أو إعادة النظر في قضاياهم كما ساعد هذا القاضي على تقريب مواعيد الفحوص الطبية لبعض المساجين.

يذكر أن مهمة قاضي تنفيذ العقوبات، كانت قد أحدثت بقرار رئاسي بتاريخ 20 مارس 1999 بمناسبة عيدي الإستقلال والشباب و بتاريخ 31 جويلية 2000 صدر القانون 77 سنة 2000 المتعلق بإرساء مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات للأول مرة ضمن مجلة الإجراءات الجزائية . وقد بادر أخيرا بعض قضاة تنفيذ العقوبات في إطار ما يسمح به القانون الصادر بتاريخ 29 أكتوبر 2002 بتمتيع بعض المساجين بالسراح الشرطي.



العنف الموجهّ إلى الذات: لماذا؟!



تعدّ ظاهرة العنف الموجه إلى الذات داخل السجون من أبرز الظواهر التي تفرزها الحياة السجنية ، العنف الموجه إلى الذات و الذي تستعمل فيه عادة الألات الحادة هل هو تعبير عن الإحباط أم الإعتباطية؟!

قامت الإدارة السجنية في السنوات ىالأخيرة بجهود كبيرة من أجل الحدّ من الظاهرة التي اكتسحت كل السجون الكبرى تقريبا، فقامت الإدارة خاصة بإحداث” مكتب العمل الإجتماعي” لمساعدة المساجين على التواصل مع عائلاتهم والتخفيف من الضغوط النفسية التي يعانون منها بعيدا عن محيطهم الخارجي كما قامت في نفس السياق بإحداث “مكتب العمل الجزائي” و الذي يعني أساسا بحل الإشكاليات القضائية والجزائية ورغم نجاح الإدارة في الحد النسبي من هذه الظاهرة، إلا أنها لا تزال تشكل أحد أبرز التعبيرات السجنية.

فتعمد إحداث جروح عميقة وتمزيق العروق وشرب مواد التنظيف والإضراب عن الطعام، تمثل كلها وسائل من أجل التعبير عن حالة الإحباط أو الفشل الإجتماعي أو النقمة تجاه الذات أو الأخر، غير أن تعمّد إيذاء الذات ينطلق بنسب كثيرة في حالات اليأس من الإفراج أو التمتع بالسراح الشرطي لإذ لوحظ أن نسبة الإعتداء على الذات تكثر في المناسبات الوطنية و الدينية، حينما لا تشمل البعض قرارات العفو. كما أن إيذاء الذات قد يكون وسيلة لتحقيق غايات ظرفية ومطلبية متعلقة أساسا بالحياة اليومية في السجن.

هـ.ي

(( عدت إلى المجتمع ملاوط))



كان ذلك في صيف 1990 يقول سفيان (28 سنة) عندما دخلت إلى الغرفة 3 في الجناحB محكوما عليّ بثماني سنوات و بضعة أشهر، أمّا التهمة فهي تجارة المخدرات. وفي الحقيقة فإن حكاية سفيان لا تروى على لسانه ولكنها تروي ممن قاسموه نفس الغرفة“.

كان هادئا وسيما رغم حجم القضية التي دخل من أجلها مع مجموعة أخرى أغلبهم أيضا من الشباب، وبالنظر إلى إدمانه فقد وقع ضحية ابتزاز جنسي و عنف جسدي مورس ضدّه من قبل “ القارد شمبارا” ( حارس الغرفة ليلا) انتهى به إلى أن يكون ملاوط "القارد شامبر" طيلة أكثر من ثلاث سنوات.

اليوم خرج سفيان إلى المجتمع من جديد محملا بعاهة نفسية سوف لن يكون من السهل تجاوزها. وفي الحقيقة فإن الملاوطين أو الشواذ جسيا يمثلون أبرز ظواهر الحياة السجنية واحد أهم افرازاتها الحالية، فعبر معاينة ميدانية للحياة السجنية بسجن 9 أفريل بالعاصمة يقول الباحث سامي نصر “أن الكبران شامبرا أو المشرف على الغرفة يكون عادة من أبرز الملاوطين وعادة ما يكون ضحايا” الكبران” المساجين الجدد أو الفاقدون للتجربة الجنسية أو فاقدو السند الإجتماعي..

وحول تجليات الظاهرة الجنسية المثلية في الفضاء السجني يقول الباحث أن هذه الظاهرة متفشية في كل السجحون التونسية داخل كل الأجنحة والغرف ولكن بنسب متفاوتة، كما أن انتشارها بهذه الطريقة يجعل الفاعلين الإجتماعيين ينظرون إليها بكونها حالة طبيعية واعتيادية وتارة أخرى ينظر إليها كحالة مرضية ويؤكد الباحث أن هناك في الفضاء السجني ثلاثة أصناف من محترفي الجنسية المثلية.

أولا : الذين يمارسون الجنسية المثلية بصفة متبادلة ، فهناك مجموعة لا بأس بها من الذين يتلذذون ويتمتعون بالتبادل الجنسي بحيث يلعبون دورا مزدوجا بين الزوج والزوجة، و يعتبر هذا التبادل المحطة الأولى للأحتراف الجنسي.

ثانيا : فئة المستأجرين، تتجسد في بعض محترفي هذا النوع من السلوك الذين يجعلون من أجسادهم بضاعة قابلة للاستئجار بمقابل، وهذا المقابل يمكن أن يكون نقودا سجنية”بونوات” تخوّل لهم شراء ما يحتاجونه من مشرب السجن .

ثالثا: خوصصة الجسد وهو خلافا للصنف السابق أين يكون الجسد عبارة عن بضاعة معروضة للجميع. في هذا الصنف نجد ما يسمى الاحتكار الجنسي، وهكذا لا يهب محترف الجنسية المثلية جسده إلا لشخص معين مقابل الحماية والأمان و يسمى حسب المصطلحات السجنية “الفرخ”، لذلك يقال فلان فرخ فلان إذ تنشأ بينهما علاقات شبيهة جدا بالعلاقات الزوجية ، فطرف عليه أن يوفر الأمان و الإطمئنان وطرف عليه أن يعرض جسده و يصون عرضه و لا يلتفت لغيره. إضافة إلى ذلك يقوم بكل الواجبات المناطة بعهدته كالتزيين وغسل الثياب وتنظيف الفراش وقد عملت الأدارات السجنية على الحد من هذه الظاهرة التي اكتسحت السجون عبر المراقبة والمعاقبة، باعتبار الأمر يتعلق بأمراض اجتماعية.

ومن ضمن وسائل الردع تستعمل الإدارة “ السيلون” (وهو عبارة عن غرفة صغيرة جدا يوضع فيها الملاوط، أو حرمانه من الفسحة اليومية داخل الساحة( AIRIA) أو من الزيارة والقفة أما الشكل الثاني من المعاقبة فيتمثل في وضع الشخص الذي يحبك العلاقات المثلية داخل غرفة في الجناح D ،تسمى “بيت الصيودة” وهي غرفة خاصة بالشواذ جنسيا.

بالرغم من كل ذلك فإن نجاعة المراقبة والمعاقبة تبقى محدودة خاصة إذا علمنا أن الأشخاص المكلفين بالمراقبة داخل غرف السجن عادة ما يكونون من محترفي الجنسية المثلية. هــــ. ي


المزيد عن الهادي يحمد: