بحث

صلاح الدين الجورشي: بين "المعرفة" و"الرأي" (ورقات من مذكرات)

"كان التحاقي بصحيفة الرأي نقلة نوعية في مسيرتي المهنية وفي ثقافتي السياسية. فمجلة المعرفة [تأسست سنة 1974] التي بدأت فيها خطواتي الأولى نحو اكتساب القدرة على الكتابة كانت أقرب إلى الصحيفة الحزبية هدفها التبشير بالدعوة، والدفاع عن جماعة في حالة تشكل. يتجلى ذلك بوضوح في اختيار المواضيع، وانتقاء الأخبار، وأسلوب الكتابة، وطريقة التعليق على الأحداث، واختيار الصور، وبالأخص تحرير الافتتاحيات التي كانت موجهة وتعكس اهتمامات المشرفين على التنظيم الذي يقف وراء المجلة. فالمعرفة كانت ناطقة باسم تيار ديني في حالة نشوء وصعود. وكان هذا التيار في تلك المرحلة يتحرك حول نواة تنظيم خفية يسمى الجماعة الاسلامية. وهو كيان حزبي غير معترف به قانونيا ولا يعرفه الا المنتمون اليه.



لم تكن المجلة تفصح عن كونها ناطقة باسم هذه الجماعة. فصاحبها المرحوم عبد القادر سلامة لم يكن عضوا بالتنظيم الناشئ وان كان متعاطفا مع هذا التيار الشبابي المتأثر بالاخوان المسلمين في المشرق، وعندما اتصل به المؤسسون الأوائل، وعرضوا عليه إعادة إصدار المجلة تحمس لذلك ومكنهم منها. وقد سبق أن أوقفت السلطة مجلة المعرفة في أوائل الستينات، بسبب انتقاد صاحبها قرار الرئيس بورقيبة الاعتماد على الحساب لتحديد دخول شهر رمضان وإعلان العيد، وذلك بدل رصد الهلال كما جرت.

مرت كتاباتي بمجلة " المعرفة " بمحطتين. في المحطة الأولى كانت مقالاتي مشحونة بنبرة أيديولوجية قوية ودعوية في أحيان كثيرة، وذلك بحكم انتمائي العاطفي والحماسي لذلك الخطاب الديني ذي النزعة القطعية والمتعالي عن الواقع وعن العقل أحيانا.أما في المرحلة الثانية تأثرت كتاباتي بتصاعد الحيرة الفكرية والحركية داخل الجماعة، وهو ما جعل مقالاتي تنحو منحى فكريا نقديا بالأساس. أثار هذا المنحى حفيظة قيادة التنظيم، ودفعه بأمير الجماعة إلى إيقافي عن العمل وإبعادي عن المجلة. فالكتابة بحرية واستقلالية فكرية في صحيفة حزبية أمر غير مقبول من شأنه أن يؤدي بصاحبه الى التصادم مع القيادة، وقد يجد نفسه متهما بالخروج عن الخط السياسي والأيديولوجي للحزب المهيمن على الصحيفة التي يعمل بها.

لهذا تعتبر الصحافة الحزبية لون من ألوان العمل الصحفي في مجتمع ديمقراطي يعتمد على حرية الصحافة والتعددية الاعلامية، لكن الصحفي الذي يختار هذا اللون من الصحافة عليه أن يلتزم بالحدود والضوابط التي يضعها الحزب، الا اذا كان هذا الحزب ديمقراطيا الى درجة القبول بالتنوع داخله، ويسمح بأن تعبر التيارات الموجودة داخله عن نفسها ومواقفها بشكل علني وعلى صفحات وسيلتها الاعلامية المعتمدة لديها.

وأذكر في هذا السياق شخصية كويتية معروفة في أوساط "الإخوان المسلمين" وجهت في ذلك الحين رسالة إلى أمير الجماعة، عبر فيها صاحبها عن استغرابه وانتقاده الشديد لهذا المنعرج الذي سلكته مجلة المعرفة، وذلك في إشارة منه إلى بعض مقالات كتبها أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي تناولت بالنقد ما يعتبر مسلمات لدى عموم الإخوان. أي أن الرقابة على الصحفي داخل الصحيفة الحزبية يمكن أن تتعدد مصادرها، وتكون من داخل الصحيفة ومن قيادة الحزب وكذلك من خارج حدود البلاد اذا كان هذا الحزب متأثرا بجهات أجنبية تشترك معه في الفكر والولاء.

في المقابل، كانت الكتابة بصحيفة " الرأي " حرة، وملتزمة بخيارات وأهداف أوسع من بضاعة الأحزاب وحساباتها. بذلك انتقلت من فضاء ضيق إلى آخر رحب أخاطب من خلاله عموم التونسيين بعد أن كان جمهوري الضيق لا يتجاوز الإسلاميين وأنصار الجماعة. فمجلة المعرفة مجلة يؤثثها إسلاميون ويستهلكها إسلاميون أو قريبون منهم. في حين اختلفت التجربة والقراء مع " الرأي "، حيث أخذ قلمي يقترب شيئا فشيئا من قواعد المهنة الصحفية، وأصبحت أحترم المسافة الضرورية تجاه الأحداث والأشخاص والمؤسسات. كما شرعت في اكتساب قدر من " الموضوعية " التي تحترم عقول القراء، وتتجنب الالتفاف عليهم بهدف جرهم إلى طريق ما أو اختيار أيديولوجي وحزبي يكون سابقا عن الكتابة، ويتسلل إليها بطرق عديدة بحثا عن التأثير في الآخرين والعمل على استقطابهم.

لم أدرس المهنة بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار، لكني اكتسبت فنيات الكتابة الصحفية عبر الممارسة والاطلاع على أصول المهنة وتاريخها وتجاربها ومدارسها من الكتب والمراجع، إلى جانب متابعة ما يكتبه الزملاء من خريجي المعهد. كنت في هذا السياق أكتشف العديد من الذين أثروا الصحافة التونسية، وتحولوا إلى رموز أساسية في صناعة الرأي العام دون أن تكون لديهم شهادة جامعية.

لا شك في أن اكتساب التكوين العلمي الأساسي أمر ضروري لحسن الأداء وإتقان المهنة، لكن الحصول على شهادة من معهد الصحافة لا يصنع بالضرورة صحفيا جيدا. يمكن أن يكون في داخلك صحفي كامن ينتظر توفر شروط الولادة حتى لو كنت تعمل في قطاع الزراعة أو الحديد الصلب ».





صلاح الدين الجورشي في ويكيبيديا


نماذج من مقالات الأستاذ صلاح الدين الجورشي



حسيب بن عمار وربيع الصحافة في تونس
 

 


 
صلاح الجورشي
 
هناك فترة زمنية في تاريخ تونس المعاصر يطلق عليها الكثيرون مرحلة ربيع الصحافة. وهي تمتد من أواخر السبعينيات إلى مطلع التسعينيات. فبالرغم من أن التشريعات المتعلقة بحرية التعبير والصحافة لم يطرأ عليها في ذلك التاريخ تغيير حيث بقيت تتسم بالتشدد، كما تعرض العديد من الصحف للمصادرة وإحالة مديريها إلى القضاء، إلا أن المناخ السياسي العام قد شهد خلال تلك المرحلة انفراجا ملحوظا مما أعطى فرصة لانطلاقة حركية غير مسبوقة منذ استقلال البلاد، وفتح المجال أمام عودة تشكل مجتمع مدني مندفع، وانبعاث صحافة مستقلة ومعارضة نشيطة.


عند الحديث عن تلك المرحلة لا يمكن عدم التوقف عند شخصية السيد حسيب بن عمار الذي انتقل إلى رحمة الله مؤخرا وخسرته الساحة السياسية والإعلامية التونسية. ورغم أن الاستقالة من الوزارة ممارسة لا توجد في القاموس الرسمي، حيث إن الوزير يعين أحيانا حتى دون استشارته، لكي يُقال فيما بعد, وقد يكون آخر من يعلم بذلك، غير أن هذا الرجل كان من بين الوزراء الستة الذين استقالوا بشكل جماعي في إحدى الفترات الصعبة التي مر بها نظام الرئيس بورقيبة في مطلع السبعينيات، رغم أنه كان وزيرا للدفاع، وذلك تضامنا مع زميلهم السيد أحمد المستيري الذي أعلن معارضته الصريحة والمباشرة لسياسة الحزب الدستوري، وللرئيس بورقيبة شخصيا. وقد تم طردهم جميعا بسبب ذلك من صفوف الحزب الحاكم، ليجد السيد حسيب بن عمار نفسه وبقية رفاقه في الموقع المواجه للدولة، وإن اختار موقع المعارض المستقل.


عندما فشلت محاولة إصلاح نظام الحكم من داخله، انخرط المرحوم في جهد جماعي ليبرالي بهدف ممارسة ضغوط سياسية سلمية وهادئة على السلطة عسى أن تتخلى عن الأحادية والانفراد بالرأي واحتكار أجهزة الدولة، وتقبل بتغيير أسلوب إدارة الشأن العام. وفي هذا السياق حصل حسيب بن عمار على ترخيص بإصدار صحيفة «الرأي» التي كانت أول صحيفة مستقلة تصدر في تونس بعد قيام نظام الحزب الواحد في مطلع الستينيات. وقد أسهمت هذه الصحيفة -إلى جانب عناوين إعلامية أخرى صدرت فيما بعد- في تغيير ليس فقط المشهد الإعلامي في تونس، ولكنها أيضا بدلت المشهد السياسي برمته.
أثرت الفترة التي قضيتها ضمن فريق صحيفة «الرأي» كثيرا في مسيرتي المهنية والفكرية والسياسية

كانت تلك الصحيفة مدرسة رغم أنها لم تكن مؤسسة إعلامية بالمفهوم التقليدي والمهني، حيث برز من خلالها الكثير من الكتاب والإعلاميين وشخصيات سياسية تحملت مواقع قيادية في منظمات المجتمع المدني أو الأحزاب، ومنهم أيضا من أصبحوا فيما بعد وزراء ومسؤولين في الدولة. ولعل أهم ما ميز تلك الصحيفة، الحرية الواسعة التي كان يتمتع بها الصحافي أو الكاتب بعيدا عن أية رقابة أو وصاية من صاحب الجريدة ومديرها. لا يعني أنه لم يكن يتابع ما يكتب أو لم يكن لديه من يساعده على قراءة المقالات قبل نشرها، وإنما كان حريصا على عدم إشعار الجميع بأنهم مقيدون، وإنما كان يكتفي بمناقشتهم وإشعارهم برفق أن حماية الصحيفة واستمرار صدورها مسؤولية الجميع، خاصة أن وزارة الداخلية كانت تتربص بها، وقد أوقفتها أو سحبتها من السوق مرات عديدة، كما أحالت مديرها إلى القضاء في أكثر من مناسبة.


وخلافا لكثير من مديري الصحف كان حسيب بن عمار يتمتع بقدر واسع من الشجاعة، ولم يسبق له أن تخلى عن الصحافيين أو الكتاب الذين عملوا معه، بل كان يدافع عنهم ويعمل على حمايتهم حتى لو لم يكن مقتنعا بوجهات نظرهم. وكان رحمه الله عندما يضغط عليه مسؤول كبير من أجل إلغاء مقال أو حذف خبر أو إدخال تعديل على نص من النصوص الذي اعتبرته الرقابة قد تجاوز إحدى الخطوط الحمراء، يرفض الخضوع لذلك الابتزاز. وعندما يفشل في إقناع مخاطبه يقول له في خاتمة الحديث «نحن نقوم بعملنا وأنتم قوموا بعملكم»، رغم أنه كان يعلم أن ذلك الموقف قد يكلف الصحيفة توقفا عن الصدور لمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر.


في لحظة دقيقة، أدرك هذا الرجل أن دور صحيفة «الرأي» قد انتهى، فقرر أن ينسحب من الساحة الإعلامية والسياسية رغم المحاولات التي بذلها البعض لإقناعه بضرورة الاستمرار. لكنه بعد ذلك لم ينقلب على عقبيه، حيث حافظ على استقلاليته، وتحمل مسؤولية تأسيس وإدارة «المعهد العربي لحقوق الإنسان». ورغم أن للمعهد دورا إقليميا، إلا أن «سي حسيب» بقي قريبا من ساحة المجتمع المدني، حيث لا يُنسى موقفه عندما انحاز بوضوح إلى جانب «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» في مواجهتها الأولى مع النظام في مطلع التسعينيات، وهي المنظمة التي أسهم في تأسيسها، وبقي غيورا عليها.


كان يريد أن يقول الشيء الكثير قبل وفاته، لكنه كان يفضل الصمت. ولا أدري إن كتب مذكراته التي طالما ألححت عليه لكي يشرع في إنجازها، وأبديت استعدادي لمساعدته في ذلك، لكن للتاريخ فقد أطلعني على مقتطفات من وقائع حدثت أمامه أو معه، تسلط أضواء كاشفة على جوانب من شخصية الرئيس بورقيبة، وذلك في مشاهد وتعليقات نادرة.


هذه النوعية من مديري الصحف التي كان يجسدها المرحوم حسيب بن عمار وعدد قليل من الشخصيات الأخرى هي التي أسهمت في قيام ربيع الصحافة في تونس، وبانقراض هذه النوعية تعرضت المهنة الصحافية إلى انتكاسة شديدة، حيث تراجعت أخلاقياتها، وضعف أداؤها، وغلبت التجارة والمصالح الذاتية على المضامين، وانعدمت الثقة بين الصحافي وإدارة المؤسسة التي يعمل بها والتي يفترض أن تحميه وترعى حقوقه فأصبحت تنظر إليه كمجرد قطعة غيار تستبدلها حسب الطلب أو عندما تستنفد أغراضها، أو في أحسن الأحوال تبث في نفسه الرعب، وتجعل منه قلما يكتب من أجل البقاء مقابل أجر زهيد. وهو ما أدى إلى تعميق الهوة بين الصحف القائمة وبين الكتاب الأحرار، حيث توقف الكثير منهم عن الكتابة، أو رحلوا إلى أرض الله الواسعة. فتراجع نتيجة ذلك كله -إضافة إلى الضغوط السياسية- أداء المؤسسات الإعلامية، وانعدمت أو كادت مقالات الرأي، كما تراجعت مساحة الخبر الذي هو أس الصحافة وعمودها الفقري. وبذلك تشابهت العناوين وجفت كثير من الأقلام
 
(المصدر: صحيفة "العرب" (يومية - قطر) الصادرة يوم 29 ديسمبر 2008)
 


الناشط والوزير محمد الشرفي كما عرفته


صلاح الدين الجورشي (*)

البشر صنفان: صنف يولد، وينمو، ويستهلك ما قُدر له من مأكل ومشرب، وقد يتزوج وينجب، ثم يشيخ ويموت ولا يسمع به أحد. أما الصنف الثاني، فالأفراد الذين ينتسبون إليه تتوفر لهم ظروف تجعلهم فاعلين في مجتمعاتهم التي قد تُجمع أو تختلف حول ما قدموه من أعمال، وما اتخذوه من مواقف. وفي كل الحالات، فعندما يفارقون هذه الحياة الدنيا تبقى ذكراهم بعدهم. وهذا هو الفارق بين الرقم والإنسان.

قبل أيام، ودّعت الأوساط الحقوقية والسياسية في تونس المرحوم محمد الشرفي، الجامعي ووزير التعليم السابق والمناضل الحقوقي. وهو بالتأكيد من الصنف الثاني، إذ قادته مواقفه والمسؤوليات التي تحملها إلى أن يترك بصمته في أكثر من قضية أو موقع. وقد بدأ الحديث عنه منذ أواخر الستينيات، حين حوكم مع عدد من مناضلي حركة آفاق اليسارية، وهي حركة حاولت أن تشق عصى الطاعة في وجه الأب المستبد «الحبيب بورقيبة»، وأن تؤشر عن بداية انتهاء الإجماع الوطني حول النظام بخروج الجامعة والحركة الطلابية من بيت الطاعة.

لكن الملامح النهائية لشخصية الشرفي لم تستقر إلا بعد أن مارس نقده الذاتي، وتخلى عن الماركسية اللينينية، وانفتح على الفكر الليبرالي ممثلا بالخصوص في أدبيات عصر الأنوار. وفي هذه المرحلة بالذات عرفته، وتوطدت صلتي به كإنسان وكمثقف. حصل ذلك عندما وجدنا أنفسنا معا في قيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هذه المنظمة التي تعتبر الأقدم عربيا وإفريقيا، وإن كان رفاقنا في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان يرفضون التسليم بذلك.

هناك قاعدة أخلاقية وعملية يتجاهلها كثيرون تفرض على أي واحد منا أن لا يحكم على أي شخص آخر انطلاقا من أفكار مسبقة، وإنما بعد معاشرته ومعرفته عن قرب. ورغم أن الشرفي كان قادما من أعماق تجربة يسارية مأزومة، في حين أن انطلاقتي كانت من رحم الحركة الإسلامية التي حملت معها منذ ولادتها شروط الأزمة الشاملة، فقد تأسست سريعا بيننا علاقة جمعت بين المكاشفة والمصارحة وبين الاحترام. وحتى أكون منصفا للرجل، فقد شكل وجوده داخل الهيئة المديرة للرابطة إضافة نوعية، إذ تحول إلى ما يشبه الشخص المرجعي للرابطة على الصعيدين القانوني وفلسفة الحقوق، بحكم اختصاصه وثقافته الواسعة ومكانته العلمية.

احتل موضوع الإسلاميين موقعا متقدما في أجندة قيادة الرابطة في تلك المرحلة بالخصوص، وذلك لسببين على الأقل: الأول، ما تعرض له قادة وأنصار حركة الاتجاه الإسلامي منذ ضائقة عام 1981 من سلسلة محاكمات السياسية استمرت إلى نهاية 1987. وثانيا، وجود رغبة، وإن جاءت متأخرة، لدى كوادر هذه الحركة في الالتحاق بصفوف الرابطة. وهنا أشهد أن الرجل لم يتردد في الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين باعتبارهم مساجين رأي، بعد الإطلاع على فحوى التهم التي وجهت إليهم. كما كانت مواقفه واضحة في اعتبار أن ارتداء الحجاب -على سبيل المثال- يدخل في نطاق الحرية الشخصية. لكنه في المقابل، كان -رحمه الله- متخوفا من أن تتعرض الرباطة إلى «غزو» من قبل أنصار حركة النهضة، مما قد يؤثر على استقلاليتها ووظيفتها. كما أنه كان على خلاف مفتوح ومعلن مع التوجه الفكري والسياسي للحركات الإسلامية، وبالأخص حركة الاتجاه الإسلامي.

أدى التحاق عدد من الإسلاميين بهياكل المنظمة إلى اندلاع نقاش، بل وصراع فكري وسياسي حاد داخل الرابطة، كاد أن يفجرها من الداخل. لكنه كان في جانب منه نقاشا ثريا، ساهمت فيه بتواضع مع غيري من المناضلات والمناضلين، من أجل تأصيل الرابطة في بيئتها التونسية، مع حماية خصائصها وأدوارها. وهو ما أسفر في النهاية عن وضع ميثاق للرابطة، يوقع عليه كل راغب في الانتساب حفاظا على أصالة المنظمة. وهو الميثاق الذي ساعد الشرفي كثيرا في صياغته، وفي الارتقاء به ليكون نصا مرجعيا توافقيا. وهنا لا بد من الاعتراف أيضا للرجل بأنه تفاعل بشكل واضح مع نزعة التوصل إلى صيغة تجمع بين المرجعية العالمية، والدستور التونسي، والأبعاد التقدمية في الثقافة العربية الإسلامية. وهي صيغة تحمست لها كثيرا مع الأخ خميس الشماري الوجه الحقوقي المعروف، واعترض عليها من كانوا يرفضون الإشارة إلى أية مرجعية أخرى خارج الإعلان العالمي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، اعتقادا منهم أن الإشارة إلى الخصوصية الثقافية من شأنها أن تنسف عالمية حقوق الإنسان.




ثم توطدت الصلة بيني وبين الشرفي، إذ كان من المثقفين العلمانيين القلائل الذين تفاعلوا مع صدور مجلة «15/21» التي كان مديرها الصديق الدكتور احميده النيفر، وتوليت رئاسة تحريرها مع ثلة من مؤسسي مجموعة «الإسلاميين التقدميين». وقد دارت بيننا نقاشات كثيرة، كشفت لي أن المرحوم قطع خطوة هامة لا يزال العديد من المثقفين المتشبثين بيساريتهم أو بليبراليتهم يرفضون اتخاذها، أو يخشون من تداعيات القيام بها. فقراءاته وتأملاته، وربما أصوله الأسرية -كونه ينحدر من أسرة دينية معروفة في صفاقس- جعلته يقتنع أن المجتمعات العربية الإسلامية لا يمكن التأثير فيها من خارج أنساقها الثقافية، وأن القطع مع الإسلام خطأ استراتيجي يرتكبه دعاة التحديث والتغيير. وهو ما دعاه إلى أن يبذل جهودا معرفية لفهم مكونات المنظومة القانونية الإسلامية، ويحاول تطويرها من داخلها في كتابه الشهير «الإسلام والحرية». 

وهنا قد يختلف معه البعض في كيفية قراءته لبعض النصوص أو الأحكام، لكن ليس من حق أي كان أن يرفع سلاح التكفير في وجهه أو في وجه غيره. فالإضافة إلى أن هذا الأسلوب خطير وغير حضاري، فإنه لا يأخذ بعين الاعتبار الخطوة النوعية التي أقدم عليه الشرفي عندما اعتبر الإسلام مرجعية لها قدسيتها، واعتبر أن من حقه كمسلم أن يدلي برأيه في فهم بعض المسائل التي تهم هذا الدين، وهي خطوة في تقديري كانت هامة ونوعية في مسيرة الرجل.


أخيرا، أريد أن أشهد أيضا بأن الشرفي كان يقبل الاختلاف وحتى النقد. فعندما تم اختياره رئيسا للرابطة خلفا للدكتور الزمرلي، عبرت له أمام بقية أعضاء الهيئة المديرة عن ثقتي في شخصه وفي حكمته، لكني تمنيت عليه أن يتجاوز خلافاته مع الإسلاميين للمحافظة على التوازن والإبقاء على الدور الدفاعي للرابطة. وتحمل الرجل ملاحظتي، وأكد أن التمييز بين ضحايا القمع ليس من أخلاقه، وأنه يتناقض مع قناعاته بأن حقوق الإنسان كلّ لا يتجزأ. كما كان حريصا على معرفة رأيي عندما عرضت عليه الوزارة، وهو ما زاد من تقديري لشخصه. وقد شجعته على تحمل المسؤولية، وذكرت له أن عديد المصلحين -مثل الشيخ محمد عبده- غامر واقتحم مجال إصلاح التعليم. وقد شكل ذلك العرض منعرجا هاما في مسيرته، إذ لامه البعض بحجة أن النظام كان يريد توظيف كوادر حركة الإنسان لأهداف سياسية

وعندما اندلع الخلاف بينه وبين قيادة حركة النهضة بعد توليه وزارة التربية والتعليم العالي، والضجة الكبرى التي حدثت بعد ندوته الصحافية، صدر بيان شهير عن حركة النهضة تضمن إشارة بتكفيره. يومها كتبت افتتاحية بمجلة «حقائق» التي ترأست تحريرها، فأدنت نزعة التكفير، ووقفت إلى جانب توجهات الشرفي الإصلاحية الخاصة بمراجعة المقررات الدراسية، بما في ذلك المتعلقة بمادة الفكر الإسلامي، لكني في المقابل وجهت له نقدا في جوانب أخرى تعلق بعضها بحملة منع المحجبات من مزاولة التعليم. صحيح أنه انزعج من ذلك، لكنه لم يقطع معي، وبقي يدعوني من حين لآخر إلى مكتبه بالوزارة للاستماع إلى ملاحظاتي، وحتى مؤاخذاتي خلال تلك المرحلة التي كانت صعبة بالنسبة له، وأيضا بالنسبة للبلاد.

كنت أزوره في بيته خلال الأشهر الأخيرة من حياته. لقد بدا عليه الإنهاك، بعد أن تمكن منه المرض الخبيث، فأفقده تلك الحيوية التي عرف بها. لكنه بدا صابرا ومبتسما، ومستعدا لمواجهة مصيره بشجاعة ووثوق. أكد لي أنه ليس نادما على ما فعله في حياته، بما في ذلك مشاركته في السلطة، لكنه في الآن نفسه فارقنا وفي أعماقه قلق من مستقبل لن يعشه، وكأنه أحس بأن الحلم الذي آمن به لم يتحقق. رحم الله محمد الشرفي الذي اجتهد وترك للتاريخ أن يحكم.

(*) كاتب تونسي

(المصدر: صحيفة 'العرب' (يومية – قطر) الصادرة يوم 17 جوان 2008)




المزالي والإسلاميون: من الخصومة إلى التحالف


صلاح الجورشي
2010-06-30

كان آخر لقاء جمعني بالوزير الأول التونسي السابق محمد المزالي، الذي وافته المنية مؤخرا، قد تم على هامش فعاليات منتدى الدوحة للديمقراطية الذي عقد قبل سنة بالعاصمة القطرية. لم تتغير ملامحه، ولم تتراجع رغبته في الحديث عن ماضيه وتجربته المؤلمة التي تصلح فعلا لكي تكون مادة لعمل درامي يرفع الغطاء عن مرحلة مهمة وحرجة من تاريخ تونس المعاصرة. فالرجل للحقيقة بقي إلى آخر لحظة من حياته يشعر بمرارة المظلمة الكبيرة التي تعرض لها، رغم أنه بقي وفيا لبورقيبة، باعتباره أحد أبنائه وتلامذته والمؤمنين بشرعيته التاريخية وبزعامته السياسية والأيديولوجية.


بادرني يومها -رحمه الله- بقوله: هل تعلم أن لي كتابا صغيرا ألفته في الخمسينيات عن الديمقراطية؟ وذلك لإشعاري بأنه مؤمن بذلك منذ فترة طويلة. وهنا تقتضي الموضوعية الإقرار بأن الفترة التي تولى خلالها الوزارة الأولى قد تميزت بانفتاح سياسي غير مسبوق منذ أن هيمن الحزب الحاكم على دواليب الدولة في مطلع الستينيات. طبعا تولى المسؤولية في لحظة بلغ فيها الاحتقان السياسي أعلى درجاته مع عملية قفصة المسلحة التي رجت أسس النظام، واستوجبت تدخلا فرنسيا وأميركيا سريعا ومتعدد الأشكال. وهو ما جعل الرئيس بورقيبة يقتنع بأن عليه أن يستند على الجبهة الداخلية التي أدانت كل فصائلها تقريبا مبدأ اللجوء إلى السلاح لتغيير الأوضاع، وذلك برفع سقف الحريات نسبيا، حتى وصفت تلك المرحلة بأنها كانت «ربيعا سياسيا» رغم ما سادها من تذبذب، وصراعات كان لها أسوأ الأثر على البلاد وكادت أن تؤدي إلى انهيار كامل لنظام الحكم.


لم يتعرض وزير أول لوابل من النقد الشديد مثلما حصل لمحمد المزالي. ويكفي العودة إلى صحيفة «الرأي» المستقلة، والتأمل في الصور الكاريكاتورية للفنان التونسي المبدع «المرشاوي» -الذي للأسف اختفى مثل الكثيرين من المشهد الإعلامي، وخسرتهم الصحافة التونسية- وذلك لقياس درجة الحرية التي توفرت في تلك المرحلة، والتي لم يشعر الإعلاميون والسياسيون بأهميتها إلا عندما افتقدوها.


إن ذاكرة النخبة ضعيفة، وعندما تتوفر لها الفرصة لتحقيق قدر أعلى من التراكم تستنزف جهودها في الحيثيات الصغيرة وتوافه الخلافات، لتجد نفسها من جديد تطمع في استعادة جزء صغير مما أضاعته.
عندما أعلن بورقيبة في خطابه الشهير (5 يونيو 1981) عن كونه لا يرى مانعا في قيام تعددية سياسية، وهي الجملة التي يؤكد المزالي بأنه كان وراءها، كنت شخصيا قابعا في غرفة من غرف الطابق الرابع بوزارة الداخلية. فقبل ذلك الخطاب بأيام قليلة صدر قرار باعتقال أبرز كوادر حركة الاتجاه الإسلامي. وبما أنه لم تعد تربطني بهذه الحركة أية صلة تنظيمية أو سياسية، فقد ذكر لي المرحوم حسيب بن عمار -الذي جمعتني به صلة قوية- بأنه اتصل يومها بالوزير الأول محمد المزالي وسأله عن أسباب إيقافي والشروع في محاكمتي، ففاجأه بقوله إن «الجورشي يعتبر من جماعة الهجرة والتكفير»! وبعد أن شرح له حقيقة أفكاري وتوجهاتي، اقتنع سي محمد بأن معلوماته عن الحركة الإسلامية التونسية كانت محدودة وسطحية. لكن مع ذلك، فمن المفارقات التي ميزت عهده أنه بدأ ولايته بمحاكمة الإسلاميين، وأنهاها بمحاكمة النقابيين، رغم أنه رفع شعار الانفتاح السياسي

ولا شك في أن الوضع التراجيدي الذي وجد نفسه فيه مع آخر أيام بورقيبة العجوز، يفسر جانبا مهما من تلك التناقضات والتباين بين الخطاب والممارسة.
عندما غادرت السجن، كنت مقتنعا بأن أعمل ما في وسعي للمساعدة على إطلاق سراح بقية المعتقلين. فرغم خلافاتي الجوهرية مع قيادة الحركة، إلا أني كنت ولا أزال مؤمنا بأن العمل على ترشيد الإسلاميين وإدماجهم في المجتمع السياسي والمدني مهمة استراتيجية، وأن ذلك لن يحصل ما داموا داخل السجون. وعلى هذا الأساس، اتصلت بالصديق الدكتور حمودة بن سلامة الذي كانت تربطه علاقات جيدة بالمزالي، كما استعنت أيضا بالمرحوم محمد الشرفي حيث كنا نشترك مع بعض في قيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وأسفرت تلك الجهود عن إطلاق سراح الشيخ عبدالفتاح مورو، الذي كتب رسالة اشتركنا مع بعضنا في صياغتها وقامت قيادة الحركة بتزكيتها، قبل أن يتم توجيهها إلى الرئيس بورقيبة عن طريق المزالي. وهي الخطوة التي أدت إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين بمن فيهم رئيس الحركة راشد الغنوشي.


وللتاريخ، فإن الرجل قد عرض على الإسلاميين صيغة انتقالية، لو أخذوا بها لاختلفت أشياء كثيرة. كان على علم بأن بورقيبة لن يقبل بوجود حزب سياسي يقوم على أساس ديني، فذلك أمر لا ينسجم مع قناعاته ورؤيته للأمور، خاصة بعد قيام الثورة الإيرانية. وبناء على تلك الاستحالة، أبدى المزالي استعداده للدفاع عن منحهم جمعية ثقافية. لكنهم، وخوفا من احتمال حرمانهم من حقهم في العمل السياسي، رفضوا العرض واستمروا حتى الآن في المطالبة بالاعتراف بهم كحركة سياسية.


بعد ذلك تعاقبت الأحداث، وتغير المشهد تماما، ليجد الوزير الأول السابق نفسه مطاردا، وتائها على الحدود التونسية الجزائرية يسير فوق حقل ألغام من بقايا حرب الجزائر. وبعد أن كان الإسلاميون خصوما له، فإذا بالأيام القاسية التي عاشها في المهجر تضطره كما اضطرتهم هم أيضا ليصبحوا طيلة التسعينيات حلفاء في مواجهة نظام أقصاهم جميعا، وحال دون عودتهم إلى ساحة الفعل السياسي على الصعيد الوطني طيلة العشرين سنة الماضية.


*كاتب وصحافي تونسي 
 
(
المصدر: "العرب" (يومية - قطر) بتاريخ 30 جوان 2010)




تونس بين قلق الحقوقيين وشيء من التفاؤل

صلاح الدين الجورشي - تونس

 

أخيرا أحيل الموقوفون في قضية الاشتباكات المسلحة التي حدثت في ضواحي العاصمة التونسية على التحقيق القضائي، وأودعوا بأحد سجون العاصمة. هذه اللحظة - التي انتظرها المحامون والحقوقيون، إلى جانب العائلات والرأي العام - لمعرفة ماذا حدث ما بين 23 ديسمبر 2006 و3 يناير الماضي، لم تكشف بعدُ عن كل الملابسات والتفاصيل.

 في حين فوجئ المحامون بالعديد من المعطيات التي تضمّـنتها محاضر الشرطة، مما جعل بعضهم يفترض بأنه قد وقع "تضخيم" للحدث، إلا أن قدرا أدنى من المعطيات قد أصبح متوفرا للخروج من حالة الغموض والضبابية والتناقض في الروايات، إلى بداية رسم صورة قد تكون قريبة نسبيا من الواقع حول مجموعة ستُـعرف مستقبلا بـاسم "جند أسد بن الفرات".

لم يقف عدد المتّـهمين عند حدود الخمسة عشر، الذي سبق أن أكّـدته المصادر الرسمية. فالمُـحالون قاربوا الخمسين متّـهما، وقد قُـسِّـموا إلى أربعة قضايا مترابطة، أهمّـها المجموعة الرئيسية التي تضم 30 شخصا في القضية رقم 7117، ويتولى متابعتها السيد عميد قضاة التحقيق، وهي فيما يبدو تخُـص العناصر الذين شاركوا أو لهم صلة ما بالإشتباكين المسلحين الذين حصلا في كل من الحي القريب من ضاحية حمام الأنف ومنطقة سليمان.

ويزداد في الأثناء قلق الأوساط الحقوقية من توسّـع دائرة الإيقافات ذات الصلة بهذه القضية، والتي يقدّر البعض بأنها قد تصل إلى 700 إيقاف، كما فوجئ المحامون بخُـلو عديد الملفات من أية إشارة إلى مسألة السفارات الأجنبية والتخطيط لاغتيال دبلوماسيين (التي وردت على لسان وزير الداخلية يوم 12 يناير الماضي)، في حين كشفت التّـهم الموجّـهة إلى الموقوفين، بأن الهدف الرئيسي من العملية كان سياسيا بدرجة رئيسية وموجّـها نحو الداخل، وهو "التآمر على أمن الدولة الداخلي" و"الاعتداء من أجل تغيير هيئة الدولة"، أي محاولة تغيير نظام الحكم.

وقد أحيل الكثير منهم بتُـهم عديدة وحسب فصول قانونية ينص الكثير منها على عقوبة الإعدام، مثل المشاركة في عصيان مسلح والقتل العمد وإدخال أسلحة نارية من أجل استعمالها.

تحفظات وأسئلة بلا جواب

مع تقيد المحامين بسرية التحقيق والحذر الشديد الذي أبدوه تجاه المعلومات الأولية التي توفرت لديهم، إلا أن بعضهم اعتبر بأن الجزء الرئيسي من حقيقة الملف "لا يزال محجوبا لاعتبارات حساسة أو أنها ذهبت مع العناصر الرئيسية التي قادت المواجهة ضد قوات الأمن وقتِـلت في الأثناء"، وهو ما جعل أحد المحامين يعتبر بأن "المعطيات التي أمامنا لا تجيب عن كثير من الأسئلة التي لا تزال بدون جواب".

هذه التحفظات، لا ينفي اعتقاد أحد المحامين بأن نواةً أولى منظّـمة قد تشكّـلت فعلا وتدربت على السلاح، وكان خِـطابها دينيا يرتكِـز على مقولة "الجهاد".

وفي هذا السياق، أدرج شيخ يسمى "الخطيب الإدريسي" (تقول بعض المصادر إنه عمل في السابق ممرضا في السعودية وقد يكون تتلمذ على الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي الراحل للمملكة) ضمن العناصر الموقوفة، وتم اعتباره بمثابة "مفتي المجموعة"، لكن معركة قانونية وحقوقية ستدور رحاها بين الهيئات القضائية من جهة، وبين المحامين وجمعيات حقوق الإنسان للتأكّـد من صحة إثبات التّـهم على هذا المظنون فيه أو ذاك، إلى جانب مسائل أخرى، مثل إدانة التعذيب والهجوم على قانون الإرهاب، الذي ارتكزت عليه الإحالة.

الأغلبية الواسعة من الموقوفين شباب، تتراوح أعمارهم بين العشرين وسبع وعشرين عاما، مستواهم التعليمي بشكل عام جيد، بعضهم طلبة، ومنهم من يُـزاول تعليمه بالمرحلة الثالثة من التعليم العالي، وفيهم من هو مجاز (مثل محمد أمين الجزيري المتحصل على على إجازة في الحقوق)، أما أبرز المناطق التي ينحدرون منها، فتأتي في مقدِّمتها سُـوسة ومناطق الساحل، التي تشكِّـل قاعدة اجتماعية وسياسية تاريخية لنظام الحكم، منذ عهد الرئيس بورقيبة، إلى جانب ولايتي (محافظتي) سيدي بوزيد (وسط) وبنزرت (شمال).

مؤشرات متناقضة

في خط مواز لهذا المسار القضائي، لا تزال الأوساط السياسية والإعلامية تتساءل عن تداعيات ما حصل على التماشي السياسي للحُـكم خلال المرحلة القادمة.

وفي هذا المجال، تبدو المؤشرات متناقضة إلى حد الساعة، فالبعض يُـشير إلى ما يعتبرونه "مؤشرات سلبية" تدُل، من وجهة نظرهم، على أن السلطة "مُـصرة على انتهاج أسلوب التشدد"، ويدللون على حِـرص السلطة على التقليل من خطورة الأحداث الأخيرة، بما ذكره الهادي المهني، أمين عام حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، في لقاء جمعه مؤخرا بعدد من الإعلاميين ورجال الثقافة.

ففي حديثه عن الدوافع التي قد تكون وراء ما حدث، أكّـد المهني على أن "ما حدث مؤخرا، ليست له أسباب سياسية أو اجتماعية أو ثقافية داخلية"، وأضاف أن "المحاولة الإجرامية أكّـدت صلابة الجبهة الداخلية وإلتفاف الشعب حول اختيارات الرئيس بن علي"، وفي ذلك، ردٌّ من الهادي المهني على مواقف كل الذين حاولوا داخل تونس أو خارجها أن يربطوا بين جنوح مجموعة من الشباب نحو العنف المسلح، وبين انحسار الحريات والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، التي تواجهها شريحة الشباب بالتحديد.

والملاحظ أن الربط بين ظهور هذه المجموعة وبين الأوضاع الداخلية، لم يقتصر على المعارضين للنظام فحسب، وإنما شمل أيضا أوساطا أخرى، بما في ذلك صحفيون طالبوا في تعاليقهم التي نشرت داخل البلاد بضرورة مراجعة أشياء كثيرة في الاختيارات السياسة والإعلامية والتربوية.

اتجاهان متعاكسان

في مقابل ذلك، هناك إضاءات قد يراها البعض ضعيفة، إلا أنها لا تخلو من دلالات أو إيحاءات.

فقد فوجئت أوساط المراقبين بتعيين السيد منصر الرويسي على رأس "الهيئة العليا لحقــوق الإنســان"، وبالرغم من أن هذه الهيئة، ذات طابع استشاري، إلا أنها يمكن أن تُـساهم في خلق ديناميكية سياسية، إذا توفّـرت الإرادة واتّـضحت الرؤية.

ومن هذه الزاوية، كان اختيار الرويسي لافتا، نظرا للأدوار السابقة التي قام بها، حتى أنه وُصِـف في مرحــلة سـابقة برجـل "الملفات الصعبة"، وموقعه الجديد، يسمح له بأن يكون همزة الوصل بين رئاسة الدولة وبين أطراف عديدة راغبة في فتح قنوات حوار مع السلطة، من أجل فضّ مشاكل عديدة، وفي مقدّمتها مشكلة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. فهل تكشف الأسابيع القادمة عن احتمال القيام بهذا الدور أم أن هذا التعيين ليست له أي دلالات سياسية كما يعتقد الكثيرون؟

من جهة أخرى، وجِّـهت الدعوة إلى كل من "الحزب الديمقراطي التقدمي" و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، للحضور والمشاركة في الاستشارة الوطنية حول ملف التكوين المهني، التي أشرف عليها الوزير الأول السيد محمد الغنوشي، وهي الدعوة الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة اتّـسمت بالجفوة والتهميش، التي يتلقاها هذان الحزبان المعروفان بمعارضتهما القوية للحكم.

وقد سبق أن استقبل الرئيس بن علي، بعد الاشتباكات المسلحة، ثلاثة من رؤساء الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان والمعروفة بعلاقاتها الجيِّـدة مع السلطة، وحملت تصريحاتهم قدرا عاليا من التفاؤل، كان آخرها للسيد منذر ثابت، الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرري، الذي أكّـد على أن رئيس الجمهورية "ضد الإقصاء والتهميش، وأنه مع تشريك أوسع قطاعات المجتمع المدني والسياسي في كل ما يتعلق بالشأن العام".

أما المؤشر الأقوى في هذا السياق، كان بدون شك رفع الحظـر عن مسرحية "خمسون" من تأليف "جليلة بكار" وإخراج "فاضل الجعايبي"، وهما فنانان مشهود لهما بالقدرة الإبداعية الراقية، إلى جانب انتمائهما للأوساط الديمقراطية واليسار النقدي بمفهومه الواسع.

وتكمُـن أهمية سّماح السلطات بعرض هذه المسرحية (بعد رفض استمر لعدة أشهر) في القضية التي تناولتها، بجرأة غير مسبوقة. فهي تتطرق بالعرض والتفكيك، إلى المعركة الدائرة منذ مطلع الثمانينات بين السلطة والإسلاميين، وأظهرت المسرحية السلطة في صورة القوة الغاشمة، التي لجأت إلى الأسلوب الأمني العنيف للقضاء على خصومها (تضمنت المسرحية مشاهد تعذيب مثيرة ومرعبة)، في مقابل إسلاميين "مسالمين ومضطهدين".

ومما آلم الكثير من اليساريين الصورة السلبية التي ظهر عليها "اليسار" التونسي في المسرحية، حيث جسده شخص مُـقعد، لا يرى الجمهور منه سوى الظهر، ويقع الإعلان عن موته في آخر المسرحية.

من هنا فإن مسرحية "خمسون"، ليست فقط حدثا ثقافيا، ولكنها أيضا حدَث سياسي بامتياز، تفاعل معها الجمهور بشكل يُـعيد إلى الأذهان أجواء الثمانينات، وأبدت من خلالها السلطة قُـدرة كبيرة على تحمّـل الجلد في ظرف أقل ما يقال فيه أنه "غير مناسب". والسؤال: لماذا سمح النظام بعرض مسرحية تُـدينه؟ سؤال حير الكثيرين.

هل أراد من خلال ذلك تجنّـب الدخول في مواجهة مع المُـبدعين والمثقفين، الذين وقفوا صفًّـا واحدا ضدّ الرقابة، رغم كثرة خلافاتهم وعدم تفاعل الكثير منهم مع نصّ المسرحية وأصحابها؟. ومهما تكن الاحتمالات، فالمؤكّـد أن قرار عدم المنع، كان في صالح النظام، وجنّـب الحالة الثقافية والسياسية مَـزيدا من الإضرار بصورة البلاد، وفتح نافذة، ولو صغيرة، لاحتمال حدوث انفراجات سياسية أكثر دلالة وعمقا.

هكذا يتواصل الشأن السياسي التونسي، تتقاذفه مؤشرات في اتِّـجاهين متعاكسين، مؤشرات سلبية، تزيد من حالة القلق والإحباط والخوف من المستقبل، مقابل مؤشرات قد تكون صغيرة، لكنها تدفع بالبعض على التفاؤل والمُـراهنة على احتمال تغيير السياسات أو على الأقل أسلوب التعامل.

بين هذا وذاك، ينتظر الجميع ماذا سيُـقال وما الذي سيُـتَّـخذ من إجراءات بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لحصول البلاد على الاستقلال في 20 مارس القادم.

 

(المصدر: موقع سويس إنفو (سويسرا) بتاريخ 9 فيفري 2007)