بحث

عبد الباري عطوان:أكاديميا

« في نقاشي معه حول ما يجعل من شخص معين صحفيا كبيرا، شدد هارولد إفانز (محرر الصانداي تايمز البريطانية) على التميز الأكاديمي، ما دفع بي للعودة إلى طموح شخصي لجمته لفترة طويلة.

تقدمت للحصول على درجة ماجستير في الدراسات السياسية الشرق أوسطية في كلية الدراسات الشرقية و الافريقية (سواس)، بحيث أبدأ الدراسة في خريف عام 1980.

بعد خمسة أيام من تقديم طلبي، وصلتني رسالة رفض من سواس و هو الأمر الذي اعتبرته غريبا (…) توجهت مباشرة إلى سواس وطلبت مقابلة بروفسور ياب، رئيس القسم.

كان البروفسور ياب في نهاية خمسيناته وكان مكتبه مليئا بالكتب وعلى الرفوف وفي مكان على الأرض، وفي أبراج متمايلة على طاولته. كنت أعتقد أنني أعلم الكثير على الشرق الأوسط لكن هذا البروفسور قام بشيّي بأسئلة غامضة بالنسبة إلي وبدا تقريبا مبتهجا بنصره علي في كل مرة كنت أتعثّر فيها بالرد، وهي الحالة الغالبة.

سالني عن مسيرتي المهنية فقلت أني عملت لمدة عام تقريبا في ليبيا فطلب مني أن أذكر له أسماء أهم عشر قبائل فيها ودورها في تاريخ البلاد فبدى جهلي واضحا من خلال إجابتي المرتبكة. ثم سألني عن أهم القبائل السعودية، التي عملت فيها ايضا فازددت إرتباكا. وأخيرا سألني عن القومية العربية التي خمّن أنني أميل إليها بدءا من قستنطين رزيق مرورا بشبلي العيسمي وانتهاء بجورج أنطونيوس صاحب كتاب نهضة العرب، فلم تكن إجاباتي مقنعة. تذكرت البروفسور ياب عندما اندلعت الثورة في ليبيا ضد نظام القذافي والدور الذي لعبه العنصر القبلي فيها، وقد أفادتني معرفتي بالخريطة القبلية هذه في كتابة مقالات لصحيفة "الغارديان" البريطانية و صحيفتنا "القدس العربي".

قال البروفسور ياب حين إكتملت الإهانة:

«- أخبرني سيد عطوان، لماذا تريد أن تدرس هنا؟

-أريد أن أتعلّم الطريقة البريطانية في التفكير. أنا متأكّد أن الأمر يتفلق بنظام تعليمكم، بالطرقة التي تدرّسون بها الطلاب. أريد أن أعلم سبب احتفاظ الخبير البريطاني بهدوئه على التلفزيون فيما يقوم معلّق عربي بالصراخ و إحباط الناس... »

ضحك البروفسور ياب لإجابتي. قال:

-لديك الكثير من الحماسة، و أعتقد أن هناك إمكانية كامنة لديك، لكنك تفتقد شيئين أساسين، المعرفة و التجربة الأكاديمية الصحيحة.

-ما الذي تقترحه؟(…)

فتح البروفسور باب درجا في طاولته و أخرج قائمة في حوالي اربعين كتابا. قال: « هذه قائمة القراءة لدرجة الماجستير. أقترح عليك أن تذهب و تقرأ كل هذه الكتب ثم تعود لمقابلتي خلال عام. (…)

المصدر:

عبد الباري عطوان، وطن من كلمات رحلة لاجئ من المخيم إلى الصفحة الأولى (ص:261-262)، دار الساقي،2015،بيروت، 462ص.




 

نص المقال الذي كتبه عبدالباري عطوان قبل مغادرة جريدة القدس (9 يوليو-جويلية 2013)، بعد أن أسسها منذ 1989.

الى القرّاء الاعزاء… وداعًا! والى لقاء قريب باذن الله"

(( ليس هناك اصعب على المـــرء من لحظات وداع قرّائه المحبين، خاصة على كاتب مثلي كان ولاؤه دائمًا لهم طوال رحلة صحافية امتدت لما يقرب من ربع قرن، وعلى صفحات ‘القدس العربي’، لم ينقطع خلالها عن الكتابة يومًا واحدًا.
لم اكن اتمنى مطلقًا أن تأتي لحظة الوداع الاخيرة في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك، الذي انتهز فرصة قدومه لاهنئ جميع ابناء الأمتين العربية والاسلامية، ولكنها الظروف ومتطلباتها، خاصة عندما تكون هناك اطراف أخرى لعبت دورًا بالدفع باتجاه هذا القرار.
اليوم تنتهي علاقتي كليًا كرئيس مجلس ادارة ورئيس تحرير ‘القدس العربي’، الصحيفة التي اعتز بها لوقوفها ومنذ اليوم الاول لصدورها في خندق امتنا وعقيدتها، وخاضت معارك شرسة في مواجهة الاحتــــلالات والهيمنة الاجنبية والديكتاتوريات القمعية الفاسدة، وانتصرت دائمًا للمظلومين والمضطهدين.


كل رحلة لها نهاية، بما في ذلك رحلة الانسان في دار الفناء، ومن الطبيعي أن يصل قطاري الى محطته الاخيرة، وأن اترجل منه مرهقًا من وعثاء سفر لم يكن مريحًا أو سلسًا في معظم مراحله.
تلقيت تهديدات بالقتل، من اجهزة انظمة بوليسية عربية واجنبية واسرائيلية، وخضت حربًا شرسة ضد انصار اللوبي الاسرائيلي في اوروبا واميركا قبل أن تمنعني من زيارتها، الذين حاولوا وما زالوا تشويه صورتي وكتم صوتي، ومنع ظهوري على محطات التلفزة العالمية، والقاء محاضرات في الجامعات الغربية المشهورة، حتى أن أحد الملحقين الاعلاميين الاسرائيليين تباهى في حديث ادلى به الى صحيفة ‘جويش كرونيكل’ اليهودية البريطانية أن ابرز انجازاته في لندن هو تقليص ظهوري في المحطات الشهيرة مثل ‘سي.ان.ان’ والبي بي سي’ و’سكاي نيوز′ كخبير في شؤون الشرق الاوسط، وهذا هو الوسام الوحيد والرفيع الذي تلقيته في حياتي.
‘ ‘ ‘
تعرضت لحملات تشويه شرسة وما زلت، من مخابرات عربية، فقد صوروا مبنى ‘القدس العربي’ كناطحة سحاب، وهو شقة صغيرة، اذهلت في تواضعها الكثير من زوارنا من وزراء اعلام وخارجية وسياسيين وزملاء، حتى أن الشاعر الكبير محمود درويش اصيب بالصدمة عندما عرج علينا للقائنا، وقال كلمته الشهيرة ‘صحيفة كبيرة تصدر من كهف صغير’، ولكنه استدرك وقال: ‘انكم لستم من اهل الكهف وانما اصحاب رسالة حضارية’!


اغادر ‘القدس العربي’ اليوم مرفوع الرأس، فقد تحولت من صحيفة هزيلة ضامرة مصابة بفقر دم في ايامها الاولى، الى واحدة من اهم الصحف العربية والعالمية، تترجم افتتاحياتها الى معظم اللغات، ويحج اليها الكثير من طالبي المقابلات والاستفسارات والتعليقات.
نفتخر بأننا، ورغم الحجب في عدة دول مثل المملكة العربية السعودية وسوريا (مفارقة غريبة) والبحرين، اصبحنا الاكثر انتشارًا وربما نفوذاً، ونتقدم في هذا المضمار على جميع منافسينا من حيث عدد الزوار، فنحن نُقرأ في 208 دول وكيان على طول العالم وعرضه، ونحتل المرتبة 4500 تقريباً على مستوى العالم على الانترنت، حسب احصاءات وكالة اليكسا وغوغل.


هذا النجاح الكبير ما كان ليتحقق لولا اسرة هذه الصحيفة الصغيرة في عددها (18 شخصاً من السكرتيرة حتى رئيس التحرير)، الكبيرة في امكانياتها وعزيمتها، وقدرتها على مواجهة التحديات. فالصحافة بالنسبة اليهم كانت دائما رسالة قبل أن تكون من اجل لقمة العيش، ولهذا رفض معظمهم اغراءات مالية كبيرة للانتقال الى مؤسسات أخرى، رغم ازمات مالية حرمتهم من رواتبهم لبضعة اشهر في بعض الاحيان.
هذه الكوكبة الصغيرة من الزملاء الصحافيين والكتّاب والمراسلين صنعت معجزة في عالم الصحافة، عندما استطاعت، بميزانية صغيرة أن تحافظ على الحد الادنى من المهنية والموضوعية وعفة القلم، والاستقلالية في الطرح، والاصرار على نشر الحقيقة كاملة.
آمنت دائما، وطوال مسيرتي الصحافية أن الحياة ‘وقفة عزّ’، لم اتردد مطلقًا في اتخاذها، فلم أساوم مطلقاً على ما اؤمن به، وتربيت عليه من قيم ومبادئ وقناعات سياسية، ودفعت بسبب ذلك، وما زلت، وسأظل، اثمانًا باهظة ربما يأتي يوم لذكرها اذا طال بنا العمر.
اعترف بأنني اجتهدت، اخطأت واصبت، ولكنني ظللت دائمًا اتعلم من اخطائي، واعتذر عنها دون خجل، فلا احد يحتكر الحقيقة، ولكل قضية وجهتها أو عدة وجهات نظر تجاهها، ولهذا حرصت دائمًا ان لا احجب رأيًا مخالفًا طالما التزم صاحبه بأدب الحوار وابتعد عن القضايا الشخصية، واتهامات العمالة والتخوين، وما اكثرها هذه الايام.
‘ ‘ ‘
ربما يسأل قارئ محب بكل براءة ويقول والآن ما هي خطوتك القادمة يا ابن عطوان؟ جوابي وبكل بساطة الى بيتي لأقضي وقـــتًا اطول مع اســـرتي الاصغر (الاكبر هي ‘القدس العربي’)، واتعرف مجددًا على ابنائي الذين سرقتني الصحافة منهم، فأطول اجازة سنوية قضيتها معهم لا تزيد عن عشرة ايام.


لم امتهن مهنة أخرى غير الصحافة بعد دراستي لها، ولم اجمع بينها وبين أي مهنة اخرى، ولم احاول مطلقاً الدخول في ميدان ‘البيزنس′ رغم العروض الكثيرة، فالصحافة هي ‘ام المهن’ واكثرها رقيًا واشباعًا في رأيي الشخصي، ولو عاد بي العمر الى الوراء فلن اختار غيرها.

لدي مشروع واحد في الافق ربما اعكف على انجازه في ايام التيه الاولى بعد خروجي من ‘القدس العربي’، وهي ايام ستكون صعبة وطويلة حقاً، هو تأليف كتاب جديد باللغة بالانكليزية تعاقدت عليه مع دار نشر اوروبية، وافكر في الوقت نفسه في استمرار التواصل مع القرّاء من خلال كتابة مقالات عبر التويتر والفيس بوك. الكتابة هي ادماني الوحيد، واكبر فرحتين في حياتي هما مولد طفلي الاول وصدور كتابي الاول.


اتمنى لـ’القدس العربي’ في مرحلتها الجديدة، والزميلة سناء العالول رئيسة التحرير بالوكالة التي ستقود سفينتها في هذه المرحلة كل التقدم والتوفيق والنجاح.


واخيرًا اكرر شكري المفعم بالمحبة والعرفان لكل زميل في اسرة ‘القدس العربي’، الاسرة التي ساندتني دائماً وتحملتني في اوقات صعبة، كما اشكر امبراطوري الاول والاخير، اي أنت قارئي العزيز الذي لا اخاف من احد غير الله الاّ انت، ولا اطيع الا رغباتك، وبوصلتي دائماً متجهة اليك، واقسم بالله انني لم اسعَ مطلقاً الا لرضائك بعد الخالق جلّ وعلا... وداعًا.. والى اللقاء.. وحتما عائدون بإذن الواحد احد)))