بحث

محمد كريشان: محمد كريشان يروي...و اليكم التفاصيل 2021

عرض الكتاب: المهدي الجندوبي


كنت أبحث عن زاوية أرتب بها ملاحظاتي المتفرقة بعد الانتهاء من قراءة كتاب محمد كريشان يروي...و اليكم التفاصيل، الصادر عن دار جسور للترجمة و النشر سنة 2021 ، عندما أعدت قراءة المقدمة و شدت انتباهي الكلمات الختامية:" بعض ما جاء في الكتاب...قد يشكل عنصرا ملهما لمن يريد السير على درب هذه المهنة الجميلة و المنهكة...". فلماذا لا يكون سؤال عرضي: كيف يمكن لطلاب الاعلام العرب من الخرطوم في السودان الى الرباط في المغرب، أن يستفيدوا من رحلتهم عبر 431 صفحة يروي فيها محمد كريشان قصة عشقه لمهنة الصحافة؟



مسؤولية كل حرفي الاخلاقية و الاجتماعية، عندما يتقدم في الخبرة أن يمد يده للمبتدئين و كأنه ارجاع جميل لكل من ساعدنا في بداياتنا. نعم لا يمكن للشباب اليوم و هو يرى الأطفال يلعبون بالهواتف الذكية أن يتصوران الصحفي المبتدئ في سبعينات و ثمانينات القرن الماضي في تونس، لا يملك آلة تصوير و أن ارسال المقال من سيناء بمصر الى مقر الجريدة بتونس، يحتاج الى تفهم الموظف في شركة الطيران و الفنان لطفي بوشناق ليقبل بعث الرسالة بعد قراءتها ليطمئن قلبه، مع رحلة الطائرة الى تونس، أو حتى ان يتصور كل الحذر الذي يجب أن يتحلى به الصحفي احيانا في كل كلمة حتى لا يغضب السلط الغضبة الكبرى، حتى و ان كانت له فرص للمراوغة بين الأسطر. ما أبعدنا في تونس اليوم حيث توجه الانتقادات اللاذعة منذ عشر سنوات لأعلى هرم السلطة.


الارتماء في أحضان المهنة ﻣﻨﺫ الدراسة

"دخلت مكتب سي حسيب..." هكذا يبدأ الكتاب ليروي لنا كيف بادر الطالب في الصحافة محمد كريشان دق باب جريدة الراي التي يديرها الوزير حسيب بن عمار اﻟﺬي طلق المسؤوليات الرسمية ليتفرغ لمشروع عمره: بعث جريدة مستقلة في تونس السبعينات، اوج الحكم الفردي.

طالب في السنة الثانية يرمي بنفسه بين كواليس/مخالب المهنة...من أين له هذا الوعي أن ما يقوم به ينصح به في افضل كتب الصحافة الأمريكية حيث يقولون للطلبة تعامل في اول فرصة مع أية نشريه و يفكرون عادة في نشريات البلدية وقتها، و يضيفون ان لزم الأمر اشتغلوا بالمجان و هذا ما انتبه اليه الطالب محمد كريشان، عندما عاد مكررا لسي حسيب مدير جريدة "الراي" التونسية، الذي تعذر عليه قبوله في اول مرة، متعاونا بالقطعة لضيق حال جريدتة الهزيلة بإمكانياتها و العظيمة بهذا الدور الذي ستلعبه في المساهمة في صياغة الخطاب السياسي التونسي نهاية السبعينات و على طوال الثمانينات و ستكون هذا الفضاء المميز الذي تلتقي فيه الأجيال و الطموحات و الأحلام تحت رعاية هذه"الشخصية الجسر" التي وصف الكاتب بعض ملامحها، و أوفي و أبدع الأستاﻨ رشيد خشانة في وصف خصالها و تحليلها في كتابه "حسيب بن عمار و حلم المشروع الاصلاحي " (2020 )، حول سيرة الوزير و المعارض و الشخصية "الجسر" بين السلطة و المعارضة و بين الأجيال و جسر بين المدارس السياسية و جسر بين الأمزجة المتنافرة.

منت السماء بضربة حظ على الشاب محمد كريشان، لأنه لم يجد نفسه في نشرية بلدية كما تذهب الى ﺫلك كتب الصحافة للمبتدئين، لكنه جالس نجوما مكتملة و بعضها في الصعود مثل سي الباجي و المرزوقي رئيسا تونس لاحقا و غيرهما. ضربة حظ نعم، لكن ليس كل مهاجم تصله الكرة بين قدميه يكمل المهمة و يسجل الهدف.

ماذا تجمع عند الشاب كريشان من خصائص لينجح في الاستفادة من هذه الفرصة؟ طموح و طاقة عمل خارقة؟ تكوين أصلي من الابتدائي و الثانوي منحه قدرة مبكرة على الكتابة و منحه الأهم وهو الاستعداد الفكري او ما يعرف بمرحلة ما قبل الكتابة، أي هذا الاهتمام المبكر بالشأن العام و الرغبة في الاطلاع و القدرة على الفهم و التمييز؟

طموح و بداهة و ثقة في النفس جعلت الشاب كريشان قبل لك يراسل وزير التربية بعد حصوله على نهاية الثانوية العامة (الباكالوريا في تونس) محتجا على تدريس تخصص القانون بالفرنسية و كان يرغب دراسته بالعربية و حصلت المفاجأة عندما بلغته برقية تحدد له موعدا مع الوزير محمد المزالي اﻟﺬي يستقبل الشاب و يستمع الى شكواه و يطلب منه الصبر لأن تعريب التعليم في تونس و هي في مطلع عشريتها الثالثة بعد الاستقلال انطلق تدريجيا مع تعريب المعاهد الثانوية، و يفتح له الوزير فرصة بعثة للدراسة في العراق. و فعلا يلتحق الشاب بتخصص القانون في العراق لبضعة أسابيع قبل أن يعود لمواصلة دراسته في الصحافة في تونس.

أظنه كان يتدرب بالفطرة و قبل الوقت على اللعب في ساحة الكبار و هو اﻟﺬي سيحاور الرئيس ياسر عرفات و كاد يحاور رئيس الحكومة الإسرائيلية شارون قبل الغاء المقابلة و غيرهما من رؤساء الدول و الوزراء و كبار المثقفين على المستويين العربي و الدولي. هل الخير في مبادرات الشاب الطموح و هو لا يتردد في دق الأبواب مهما كانت تظهر عالية، أو هو أيضا في طينة ﺫلك الجيل من مسؤولي دولة الاستقلال و هو يحتضن الشباب و يعرف كيف ينصت اليهم و يرعاهم؟

محمد كريشان نجم من نجوم الأخبار التلفزيونية العربية هو صناعة محلية تونسية لأن كل تكوينه حصل عليه في مدارس تونسية و هو خريج معهد الصحافة و علوم الاخبار سنة 1981 و ناقش رسالة أعدها رفقة زميله بن أحمد زهير و عنوانها يوحي بمشاغله لاحقا: الجدال الصحفي حول أسلوب الحكم و الحريات السياسية في تونس، و مارس المهنة في بداياته طوال أكثر من عشر سنوات في البيئة الصحفية التونسية و عندما غادر تونس سنة 1995 خرج منها شبه مكتمل التكوين و التجربة، و هذا لا ينفي ما تعلمه في مراحل لاحقة في بيئات مهنية متنوعة و دورات تكوينية استكملت كفاءاته الأصلية.

في بحثه عن الشغل كان الشاب كريشان يبادر و يجازف. فهو يتصل بسفارة ليحصل على رقم هاتف الاﺬاعة الهولندية الموجهة الناطقة بالعربية لآنه أعجب يوما ب "صوت رخيم جميل" و ظن "أنه تونسي"، ليعلم لاحقا أنه المذيع محمود بوناب و يتصل بالمحطة لكنه لا يعثر على المذيع فيترك توصية كمن يرمي زجاجة في البحر و تحصل "المعجزة "لأن صاحب الصوت الرخيم اتصل فعلا بالشاب الطموح.

مرة أخرى يدق باب الإذاعة الوطنية التونسية و هو من خارج هيئة تحريرها، و يقترح برنامجا يجمع بين الخبر و التحليل متخصصا في الشأن العربي و فعلا يتدخل الحظ و ينطلق برنامج "أحداث عربية" يوم انطلاق الهجوم الامريكي على العراق في24 فيفري 1991، أي في ظرف أخذ فيه الشأن العربي موقع الصدارة في الراي العام التونسي. و أكاد أجزم لأني تابعت مباشرة بعض حصص البرنامج الأسبوعي أن جودة مضمونه لم تكن أقل مما سيقوم به كريشان بعد عدة سنوات، في برامجه في الجزيرة مع فارق تراكم الخبرة و الامكانيات المتاحة. الخلاصة: اذا رغبت أن تعمل، لا تبقى مكتوف اليدين، من البديهيات المتروكة أحيانا.


البداية المتواضعة

أول مهمة للشاب كريشان كانت الاطلاع على بريد القراء و انتقاء بعض المقاطع لنشرها و نعرف كم كان هذا الركن محل نظرة دونية عند الزملاء مع نوع من اللامبالاة، بينما هو في الواقع موقع استراتيجي لأنه وقتها الشكل الوحيد لتلمس ملامح القارئ و مشاغله في غياب دراسات الجمهور. و الصحفي اﻟﺬي يتغذى شابا بمثل هذه المادة سيكون أقرب من غيره من جمهوره سواء في اختيار المواضيع المستوحاة من مشاغل لناس أو في تبسيط اسلوب الكتابة. و قرأت مرة في كتاب حول الصحافة السوفياتية ان جريدة البرافدا الناطقة باسم الحزب/الدولة آنذاك كان لها قسم معالجة بريد القراء فيه طاقم من حوالي 70 شخص مهمته مثل مهمة الصحفي الشاب محمد كريشان، في جريدة الراي.

و حرص محمد كريشان على وضع صورة في بداية ألبوم الصور اﻟﺬي أدرج آخر الكتاب، و هو يعمل على البدالة الهاتفية في جريدة لابريس اليومية التونسية، و هو طالب في الجامعة في 1980 و قد يكون هذا العمل خارج هيئة التحرير، أول انغماس في البيئة المهنية و من دخل السقيفة فهو داخل لا محالة البيت.


الكتاب يوظف تقنيات الكتابة الصحفية.

عند قراءة كتاب "محمد كريشان يروي..." تنسى أحيانا أنك تطالع و تأخذك الكتابة بكثير من السهولة من باب الى آخر و كأنك تقرأ سلسلة من المقالات الصحفية الخفيفة، التي وظفت أفضل ما في التحرير الصحفي من تقنيات تجعل النص يجمع بين الاستفادة من مضمونه و متعة لغة سلسة، بسيطة، سهلة، دقيقة و مريحة. و أخال كل طالب اعلام يتصفح هذا الكتاب سيجد خلاصة لكل ما نصحه به أساتذته في التحرير الصحفي.

عناوين الفصول و الأبواب العديدة هي أحسن تدريب على هذا التمرين الصعب في الكتابة الصحفية: كيف نقول باختزال ما سيفيض فيه الموضوع تفصيلا؟ اختار الكاتب للفصل الأول عنوانا يلخص عن طريق التضاد مرحلة السبعينات " تونس...فجر الصحافة و ليل السياسة"، و هي فعلا مرحلة عرفت تجارب صحفية ناشئة و جريئة في حقبة الانفراد بالحكم و الانغلاق على النخب. " علي عبد الله صالح: خليك مسيحي أحسنǃ"، هذا العنوان يبرز عنصرا من حوار عفوي بين الرئيس اليمني و أحد أعضاء الطاقم الفني للجزيرة على هامش المقابلة الرسمية، و يدغدغ الفضول و يدعو للانغماس في الموضوع. كذلك هذا التصريح للرئيس الموريطاني متحدثا عن الرئيس السابق: " ولد عبد العزيز: من حقه و لكن ليس بالليلǃ" فما هو هذا الحق الذي يضيع بالليل؟ ادخل الكتاب يأتيك الجواب.


خلفية تفتح الأفق

من المهارات التي يصعب استعمالها عند الشبان: التوظيف السليم للخلفية التي تسمح بالتوسع انطلاقا من نقطة هي موضوع الحديث الرئيسي و يسمح هذا الأسلوب باثراء الكتابة و وضع الحدث في اطاره الأشمل لأن كل قصة تقتطع من سياق هو الذي يعطيها كامل معانيها كما يسمح من الانتقال من مجرد الاعلام الى التثقيف و التكوين. و هذا ما نجده يتكرر في كتاب محمد كريشان الذي غلب عليه سرد الوقائع كما عاشها الكاتب، لكن اللجوء للخلفية حول بعض الفقرات يتحوّل الى فرصة تعلم و فتح أفق. فعند حديثه عن تعامله مع الجريدة السعودية اليومية "عكاظ" (ص:75) يتوسع للحديث عن ملابسات انتقال الجامعة العربية من مقرها الدائم منذ تأسيسها في القرن الماضي (1945)، الى تونس نتيجة زيارة الرئيس انور السادات الى القدس (1977 ) و خطابه الشهير في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، و اعتماد تونس كمقر للجامعة جلب لها العديد من الصحفيين العرب كما تعاقدت الجرائد مع صحفيين تونسيين.

يتحدث الكتاب عن علمه لأول مرة و هو في زيارة ضمن وفد طلابي من معهد الصحافة الى العراق، بأحداث ما نسميه في تونس "الخميس الأسود" و هو يوم اضراب عام أعلنت عنه و نفذته المركزية النقابية يوم 26 جانفي 1978 و تحول الى حالة من العنف و شهد سقوط قتلى بالعشرات. و يضيف خلفية تكشف أهم ملابسات هذه الحوادث (ص:147) و تسمح لمن لم يعشها أو لم يقرا عنها أن يتعرف على هذه الحقبة التي عرفت أزمة متصاعدة على خلفية مطلب النقابة في الاستقلالية عن الحزب الحاكم، و تكثف الصراع على السلطة مع مرض الرئيس يورقيبة و انفراده بالسلطة و شيخوخته الطويلة.

يتحدث كريشان عن شخصية اسرائيلية من أصل عراقي التقى بها في واحدة من مهماته الاعلامية، و هو الأستاذ لطيف دوري الذي عرف بالكشف عن ملابسات مجزرة كفر قاسم سنة 1956 التي قتل فيها الجيش الاسرائيلي العشرات من المواطنين الفلسطينيين و هم في طريق العودة مساء من حقولهم، بدعوى عدم احترام حظر الجولان. و يتوسع مدرجا خلفية طريفة حول بعض وجوه من اليهود العرب الذين تميزوا بمواقفهم المتعاطفة او المناصرة للحق الفلسطيني و رفضوا مغادرة أوطانهم العربية الأصلية و منهم المغربي ابراهام السرفاتي الذي عرف السجون لمواقفه ضمن حركة اليسار المغربي و التونسي جورج عدة الذي كان ينتمي الى الحزب الشيوعي التونسي و ساهم في حركة التحرير الوطني في الاربعينات و بقي الى آخر حياته في تونس و نشر مقالات في جريدة الطريق الجديد التي كان ينشرها الحزب من الثمانينات من القرن الماضي الى ما بعد الثورة في 2010/2011.


التعامل مع المصادر والعمل الجماعي

من أساسيات العمل الصحفي البحث عن المصادر و ربط علاقات تعاون تسمح بالوصول الى المعلومة و هو هاجس كل الصحفيين الميدانيين. يتحدث محمد كريشان عن تجربته في جمع أخبار الجامعة العربية و مختلف هياكلها و هو مراسل عكاظ في تونس، و كيف كان يلجأ رفقة زميله الأستاذ الطيب فراد الذي يعمل في جريدة "منافسة" و هي الجزيرة اليومية السعودية الشهيرة، الى الوفود الأقل "نجومية"، التي لا يهتم بها الصحفيون عادة، لأنهم يركزون على الأقطاب مثل الوفد العراقي و السوري او السعودي، فكانوا يحصلون على نفس المعلومات من وفود الصومال او موريتانيا لأنهم يشاركون في نفس الاجتماعات و يملكون نفس الوثائق و التقارير التي توزع عليهم مثل بقية الوفود ( ص:62).

أخطاء الصحفي الشاب وجدت أحيانا عند بعض المصادر الرسمية التفهم الكافي، اذ يذكر كريشان أنه ذهب الى مطار تونس و معه آلة لتسجيل تصريح وزير الخارجية العراقي و الدبلوماسي الشهير، طارق عزيز لكن الآلة تعطلت بعد أن انطلق المصدر في تصريحه و ارتبك الصحفي الشاب لأنه لم يستعد للبديل و لم يكن له قلم و دفتر فما كان من الوزير طارق عزيز الا أن طلب توفير ذلك من احد حراسه و تم نشر التصريح في الغد في الصفحة الأولى من جريدة عكاظ (ص:180 ).

في أول زيارة للعاصمة القطرية الدوحة ضمن وفد اعلامي تونسي يتحدث الكاتب عن لقاء مع ولي العهد الذي استفاض في الحديث في الشأن العربي بأسلوب نقدي و هذا لا يمكن الا ان يسعد الصحفيين لأنهم تعودوا باللغة الخشبية (الرسمية) التي يعسر استغلالها في مواضيع تشد القارئ، لكن قبيل المغادرة و بعد انتهاء حديث ولي العهد اقترب وزير الاعلام من الوفد قائلا أن فحوى اللقاء ليس معدا للنشر و انها "دردشة صريحة مع إخوة لا أكثر"، فيا خيبة الصحفيين، لكن هذه عادة مكرسة دوليا تحت عبارة: off the record.

التعامل مع المصادر خاصة عندما يتحرك الصحفي في غير بيئته الطبيعية، يحتاج الى جنود خفاء من المتعاونين المحليين الذين يرافقون الصحفيين و يمثلون الذراع التنفيذي "لخططهم" للوصول الى المعلومة. يتحدث كريشان على اقامته في العراق بعد اسبوع من سقوطها في نيسان/ابريل 2003 و اطلاق اول برنامج سياسي يومي تنجزه الجزيرة و كان بحاجة الى تصريحات و مشاركات للعديد من الشخصيات المحلية في ظروف أمنية صعبة. و هنا يذكر الكاتب الدور المحوري للسائق ظافر: "كنا محظوظين بظافر و سيارته...كان يعرف بغداد بيتا بيتا...كان يعثر لنا على هؤلاء الضيوف (المصادر) بعد السؤال عن بيوتهم...كانت له قدرة رهيبة على التصرف...و ان حار في معرفة بيت ما يذهب الى مختار تلك المنطقة (مسؤول محلي)...مستعينا بسجل المختار للعائلات التي كانت تتلقى من الدولة مساعدات غذائية".

و يتكرر ذلك عندما يعود كريشان مع طاقم الجزيرة بعد مرور سنة من الاحتلال في أجواء من عمليات ليلية و انفجارات و يتم انتداب متعاون محلي عراقي يقدمه الكاتب بهذه الجملة: " رشيد والي، الذي كان عبارة عن "جوكر" المكتب، فهو مصور و سائق و كل شيء في نفس الوقت". كم على الصحفي أن يتواضع حتى و ان كان في صدارة الأحداث لأن ذلك ليس سوى الوجه الظاهر من جبل الجليد الذي لا يرى سوى ثلثه الأعلى و البقية تخفيها المياه. العمل الصحفي في المجال التلفزيوني، و ان بدى عملا فكريا، فهو يتم في سياق صناعة معقدة الآليات. فاذا كان السائق العراقي السيد ظافر أو مواطنه السائق المصور رشيد والي، بهذا الحجم من المساهمة فما بالك بغيره من المشرفين و المتعاونين الذين لا يظهرون على الشاشة ǃ


توظيف الطرفة

ملل القارئ او المشاهد هو العدو الأول للصحفي و الاعلامي كما لكل امام خطيب أو سياسي أو روائي، أي لكل من يكون شرط عملهم النفاذ الى قلوب و عقول الناس، و لا يكون ذلك الا عبر شد الانتباه. و ليس لنا حل سوى اللجوء الى الطرفة و ما يعبر عنه بالفرنسية و الانجليزية بمصطلح anecdote او ما كان العرب يسمونه "الملحة" لكسر الرتابة و شد الانتباه لأن الخرافة تبقى مدى العصور ابلغ اشكال السرد. و الطرافة من عناصر الخبر مثل الجدة و الآنية و الأهمية و غيرها من الخصائص التي تسميها كتب الصحافة القيم الاخبارية news values.

أدمج محمد كريشان في مختلف صفحات كتابه مجموعة من الطرائف التي اعترضت سبيله هو و فريق عمله في حلهم و ترحالهم بين عواصم الدنيا و ميادينها الاعلامية. في بداياته الصحفية كان يتعامل مع مصور و لم تكن منتشرة في تونس ما أصبح يسمى لاحقا مهنة المصور الصحفي، فكان الصحفيون يلجؤون الى ما نسميهم "مصوري الأعراس" و كان فعلا نشاطهم الرئيسي الانتقال من حفل زواج الى آخر لإنجاز صور الحفل. و كان كريشان رفقة زميله الصحفي و المحلل السياسي التونسي الشهير لاحقا، صلاح الدين الجورشي على "أرض الميدان" في فندق "هيلتون" حيث تقيم كوكبة من المسؤولين العرب خلال أحد اجتماعات الجامعة العربية. و لاحظ الصحفي الميداني ان " كل من فاروق الشرع وزير الخارجية السوري و ... أحمد صدقي الدجاني عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية...جلس الرجلان على انفراد في لحظة مشبعة بالدلالات السياسية..."، و ذلك على خلفية خلافات بين القيادتين السورية و الفلسطينية " بعد حركة الانشقاق داخل حركة فتح عام 1973...". و أشار كريشان "لصحفي الأعراس" أن يسارع بالتقاط صورة لتخليد هذا المشهد، لكن المصور سمير تباطأ و أراد أن يستفسر عن هذه المهمة التي تم تكليفه بها و يتعرف على هذه الشخصية اسما و وظيفة فأمره الجورشي أن يسرع حتى لا يضيع المشهد " انه أخ العروسǃ في إشارة ضاحكة للغة الأعراس...التي يجيدها سمير أكثر من لغة السياسة و السياسيينǃ" (ص:64 ) .

غادر مدير قناة الجزيرة قطر في سفر بالخارج لكنه اتصل بالطاقم الفني الساعة واحدة ليلا لتقديم ملاحظة حول وقوع خطأ فني و أعاد الكرة الساعة الثالثة فجرا، فما كان من الفني أن يقول مداعبا لمديره: " متى تنام حضرتك حتى نعرف نغلط براحتنا؟". ملحة اخرى في سلسلة طويلة وقع بثها بين الصفحات لإمتاع القارئ و تخفيف عبء القراءة عليه.

التهكم على الذات مع مسحة من المرارة أو ما يعبر عنه الفرنسيون ب humour noir ، من تقنيات شد القراء و اشباع فضولهم عن طريق رسم الابتسامة المرة. انتقل الصحفي الشاب في بداياته في الثمانينات من القرن الماضي، من جريدة الى أخرى و كانت الصحافة الحزبية و المستقلة التونسية، في وضعية هشاشة بين الرقابة المسبقة للنصوص و الحجز من الأكشاك بعد الطبع بسبب مقال غير مرغوب فيه، و الغلق الوقتي أو الاندثار لأسباب مالية، حتى أنه تزوج في 1986 و هو عاطل عن العمل وقتيا (" تزوجوا فقراء يغنيكم الله" صدق الله العظيم). 

وأرادت الصدف ان تغلق كل جريدة يدخلها، حتى أن أصدقاءه شبهوه تهكما، بشخصية "شرارة" و هي " شخصية فكاهية أداها الممثل المصري محمد عوض في احدى المسلسلات، و فيها تكون هذه الشخصية طالع نحس على اي شيء يضع فيها يده...". و في هذا السياق يتحدث عن تعطل دفع الرواتب في جريدة "المستقبل" التي كان يصدرها أهم حزب معارض وقتها بزعامة الأستاذ أحمد المستيري الوزير و المعارض و الأب الروحي للديمقراطيين التونسيين في السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي، قائلا: " فلما سالت ذات مرة زميلي العروسي النالوتي عن موعد تسليم الرواتب في العادة، فأجاب ضاحكا: نحن و حظنا، أحيانا نتقاضاها في اليوم 45 من الشهر و أحيانا في الخمسين منه ǃ"(ص:71 ).


فن افتتاح المواضيع و دغدغة فضول القارئ

بداية الموضوع الصحفي تحتاج الى عناية أسلوبية خاصة و هو ما يسمى عادة المقدمة أو الاستهلال lead و تسمى أيضا "الهجوم" و هي ترجمة حرفية لعبارة attaque الفرنسية و قد تكون "افتتاحية" عبارة مناسبة، اقتداء بالموسيقى التي تنطلق بجملة موسيقية افتتاحيةOuverture/Overture (Opening ) و تنتهي بقفلة تعبر عنها عبارة chute الفرنسية و هي معتمدة للدلالة على خاتمة الموضوع الصحفي.

فاذا كانت القاعدة في كتابة الأخبار تصدير الحدث الآني أو الأكثر أهمية، فالكتابات الصحفية الأخرى مثل التقارير الحية و مقالات الراي تحتاج الى اجتهاد أسلوبي أكثر ابتكار و تنوع و هو ما نجده مجسما في جل بدايات أبواب الكتاب." دخل صدام حسين الكويت فدخلت معه الى باب آخر في عالم الصحافة" هكذا يبدأ كريشان بابه الذي يحمل عنوان الإذاعة التونسية (ص:77 ). ما علاقة كريشان بالرئيس صدام؟ لا شيء باستثناء التزامن من باب الصدفة بين حدث دولي و حدث شخصي في سي في (CV) كريشان. و هنا تكمن الحيلة التحريرية: فالقارئ يعرف حجم الحدث التاريخي الذي زلزل العالم العربي في شهر أوت 1990 عندما أقدمت العراق على اجتياح الكويت، فيقوى انتباهه للحدث الثاني الذي ربطه به الكاتب تعسفا، و هو زمن انتقاله من الصحافة المكتوبة الى الصحافة المسموعة.

في باب آخر عنوانه "مذيع لم لا؟"، يفتح الكاتب موضوعه كالآتي: " أمسكت بتلك القصاصة الصحفية الصغيرة، التي ظلت على مكتبي لأشهر..."، فهل ذكر سابقا القصاصة؟ لا أبدا. و تلك تقنية تحريرية أخرى لدغدغة الفضول كمن يبادرك بلغز فتزداد رغبتك في معرفة البقية و فعلا نعلم بعدها أن كريشان سيشارك في مناظرة تعتزم تنظيمها هيئة البي بي سي البريطانية التي قررت بعث قسم تلفزيوني عربي (ص:91 ).

كذلك في مطلع باب آخر يحمل عنوان "الصداع الكبير" (ص:113)، يفتتح الكاتب موضوعه بهذه الجملة: " لم يكن هناك سوى وعد واحد: سنكون قناة مهنية و حرة ǃ". فمن هو صاحب الوعد و من هي هذه القناة، هذا ما سيخوض فيه الكاتب لاحقا ليحدثنا عن بداياته في تجربة العمر مع قناة الجزيرة القطرية التي رأت النور ،1996 و كان كريشان من الأوائل الذين التحقوا بطاقم التحرير بعد تجربة قصيرة في التلفزيون العربي لبي بي سي التي ولدت شبه موءودة. هكذا يصدر الكاتب مادة اعلامية كأنها تسبقة على ما سنعرفه لاحقا أو طعما لاستدراج "القارئ/السمكة" نحو صنارة الكاتب.


ما للصحفي و ما للمؤسسة الاعلامية؟

مذكرات كريشان لا تقتصر على تجربة الجزيرة التي ينتمي الى طاقمها الصحفي منذ نشأتها منذ ربع قرن و أخذت منه أكثر بقليل من نصف عمره المهني، و من الطريف أن تكون خطواته الأولى في جريدة الراي الأسبوعية بإمكانيات بسيطة جدا و أن تكون الجزيرة بإمكانياتها العريضة نسبيا، آخر محطة من المحطات المهنية التي يرويها الكاتب. فهل هناك خيط رابط بين صحافة جريدة "الراي" التونسية التي عرفها نهاية السبعينات و بداية الثمانينات من القرن الماضي، و صحافة تلفزيون "الجزيرة" القطرية التي انتمى اليها في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، و هما على طرفي نقيض؟ واحدة غارقة في المحلية التونسية و الأخرى تشتغل على ما أصبح يسمى الآن pan Arab اي هذا الجمهور العابر للأقطار العربية من المحيط الى الخليج . واحدة مكتوبة و الأخرى سمعية بصرية. واحدة ترحب بمن يعمل معها بالتطوع و اخرى تدفع رواتب شبيهة بنجوم كرة القدم مع التنسيب طبعا. واحدة ملكية خاصة لشخصية عامة و الأخرى على ملك أو بتمويل سخي لدولة قطر. هل الصحافة تبقى مهنة واحدة في بيئات و مؤسسات مختلفة و متناقضة احيانا؟

هل الصحفي "مستقل" و "مهني محترم" عندما يعمل في جريدة تدفع راتبه الهزيل بين اليوم 45 و 50 من الشهر و "أقل حرية و مهنية"عندما يجد من يعترف بكفاءاته الحرفية و المعنوية و يمنحه راتبا يجازي الجهد و يغري كل من لم تسعفهم حظوظ مماثلة؟

كتاب "محمد كريشان يروي..." ليس دراسة لتجربة الجزيرة و لا حتى تحليلا من الداخل لها و ان وردت بعض الاشكاليات تم التعرض اليها بصفة شديدة الاقتضاب مثل مسالة العلاقة بين خط تحرير الجزيرة و سياسة الدولة القطرية و ما هي حدود الحيادية الاعلامية و الانحياز لما يتصوره كل واحد "الحق"، و تجسم ذلك جليا في الموقف "شبه التحريضي" في مأساة سورية و لا يخفي محمد كريشان موقفه و اختلافه في التقييم مع أستاذ الصحافة العربية حسنين هيكل سواء في الملف السوري او في ملف اقالة الرئيس محمد مرسي و تعقيدات الوضع المصري بعد ثورة 2011. فهل يستطيع الصحفي أن يحافظ على مهنيته و يلتزم بالممارسات الفضلى للصحافة عندما يتبنى موقفا سياسيا صريحا في قضية هي موضوع الساعة و هي مادة شغله اليومي؟ هل يمكن للموقف الأخلاقي العام أن يتعارض مع أخلاقيات المهنة الصحفية؟

هل أوفت الجزيرة بالتزامها ازاء الصحفيين الذين انتدبتهم و خاطبتهم بهذه الوعد/البرنامج :" سنكون قناة مهنية و حرة"(ص 113 )، أو هل أن تعقيدات الوضع العربي و صعوبات المرحلة عصفت بالنوايا الحسنة للمؤسسة التي يرى البعض أنها أول من عصف على أنظمة الحكم سنوات عديدة قبل ما درج على تسميته بالربيع العربي؟ و لما لا تكون الرياح العربية التي اقتلعت انظمة قادرة على اقتلاع النوايا الحسنة لمؤسسة اعلامية أنشأتها دولة قطر فأصبح العالم يعرف الجزيرة و قد لا يعرف قطر. و تذكرني تجربة الجزيرة بتجربة اذاعة تيرانا التي انشأتها البانيا الدولة الشيوعية التي خاصمت الجميع أمريكا و الاتحاد السوفياتي و و حتى آخر حليفاتها الصين نهاية السبعينات من القرن الماضي. فالكل يعرف و يسمع اذاعة تيرانا و يكاد يجهل كل شيء عن ألبانيا.

و هل يتحمل الصحفي مسؤولية خط تحرير المؤسسة التي يعمل ضمن طاقمها الفني؟ أو هل يتحمل مسؤولية برامج زملائه و اسلوبهم المثير للجدل أحيانا، حتى و ان لم يشارك فيها و لم يخطط لها؟ يقول كريشان أنه حرص على الانتظام على كتابة عمود أسبوعي في جريدة القدس التي أسسها الصحفي الفلسطيني عبد الباري عطوان و تصدر بلندن لأنه رغب في المحافظة على عادة التحرير التي اكتسبها في "حبه الأول" الصحافة المكتوبة و كذلك ليكون متنفسا يعبر فيه عن مواقف شخصية لا تسمح بها البرامج الاخبارية و التحليلية في التلفزيون. فهو اذا ينوه الى ان ضوابط خط التحرير ليست دائما "مريحة مهنيا".


يشرح مطولا محمد كريشان كيف تعاملت السلطة التونسية قبل الثورة بنوع من عدم النضج اذ كانت تشكو من انفتاح القناة على المعارضين لكنها في نفس الوقت تنتهج سياسة الكرسي الفارغ لأنها ترفض حضور برامج يشارك فيها المعارضون و نتيجة ذلك انها اهدت لخصومها فرصة التحرك بأريحية و الوصول الى الراي العام التونسي و العربي من غير منافس أو مناقض و خصص الفصل الخامس كاملا لهذا الموضوع تحت عنوان: "تونس و الجزيرة"(ص:293-333 ). فهل تتحمل القناة وحدها مسؤولية غياب السلطة و عدم توازن البرنامج لصالح المعارضين؟ لكنه يقر أيضا أن سلطة ما قبل الثورة لم "تحاسبه" على انتمائه الى التلفزيون الذي تسبب لهم في الكثير من الاحراج و ان طالته بعض المقالات المسيئة من أوساط صحفية عرفت بمهاجمة المعارضين و المستقلين و كل من يظن أنه محل عدم رضا من السلطة.


حسنين هيكل أو "البل تمشي على كبارها"

قابل محمد كريشان في مهماته الصحفية العديد من الوجوه المتنفذة في السلطة من مختلف البلدان عربيا و دوليا، لكن الشخصية التي حظت منه بأكثر اهتمام و خصص لها فصلا مستقلا كما فعل ذلك مع بلده تونس أو العراق او فلسطين، هي هرم الصحافة العربية بلا منازع الأستاذ محمد حسنين هيكل ( الفصل السادس : "مع هيكل". لا شك عندي أن رسالة محمد كريشان من وراء هذا التقدير الاستثنائي الذي يكنه عفويا الى حسنين هيكل هي نفس رسالة المثل الشعبي التونسي: "البل تمشي على كبارها". فالصحافة بقدر ما هي مهنة نتعلمها في كليات و أقسام الصحافة و في الكتب الجامعية، هي أيضا حرفة نتعلمها بتقفي خطوات السابقين لأنهم واجهوا الواقع و تأقلموا معه و ابتكروا سبل العمل المناسبة و رسموا الطريق الممكن حسب ما تمليه عليهم الظروف الموضوعية و ما ترتضيه عقولهم و نفوسهم. (jendoubimehdi@yahoo.fr)


(نشر في ليدرز العربية 8-1-2023)

المصدر


المزيد عن كتاب محمد كريشان