بحث

صالح الحاجة: لعنة الصحافة في تونس (شهادة) 2023

عرض الكتاب : المهدي الجندوبي

طلب الدكتور سليم عمار المتخصص في علم النفس، من الأستاذ الصحفي صالح الحاجة، الذي جاء يشكوه علاجا من هاجس الخوف، أن يكتب له كل شيء عن قصة حياته، وقدّم له إثر ذلك وصفة كان لها الأثر الطيب وقتيا. استحضرت هذه الطرفة التي يحكيها صالح الحاجة في كتابه "لعنة الصحافة في تونس" (شهادة) الذي نشرته منذ أسابيع دار لوغوس للنشر والتوزيع وجاء في 83 صفحة، وتساءلت هل ما نشره اليوم الصحفي التونسي صالح الحاجة، سليل مدرسة الصباح ومؤسس جريدة الصريح الأسبوعية سنة 1995، التي تحوّلت لاحقا الى يومية واستمرت فترة قليلة بعد الثورة قبل ان تختفي الورقية وتتحوّل الى موقع الكتروني، ليس سوى استكمالا لورقات سليم عمار، يعرضها على القارئ وكأنه يبحث لديه عن علاج من نوع آخر.



يقول الكاتب معرّفا كتابه هذه ليست مذكرات، وفعلا غاب عنها التبويب وغابت التواريخ والحقبات، وجاء في باب وحيد هو كل الكتاب، ذكريات و تساؤلات وصور يبحث عنها في ذاكرته، وشخصيات التقى بها الكاتب أو قرأ لها وعنها، فهو تارة يخاطب القارئ وتارة يناجي نفسه ويلومها بقسوة وأحيانا يشكو ويتذمّر رغم رفضه تحميل غيره مسؤولية قراراته و"أخطائه"، وتجده أحيانا يحلّل بأسلوبه الخاص و لشيق، وبلغة فصيحة ممزوجة بعبارات من العامية التونسية الأصيلة، جوانب من الوضع الصحفي التونسي زمن الحكم الفردي ويقدّم النصيحة، لكنه في كل هذه الحالات ورغم بعض المرارة والندم، يبقى فخورا بصمت بما عاشه من قصة "عشق"، ومغامرات مع عشيقة صعبة المراس قاسمته حبّ أهله، بل قد تكون افتكته منهم، ومحبّة متقلّبة ومتنكّرة وهي المهنة الصحفية، التي يلعنها في عدّة صفحات، إضافة الى لعنة الغلاف بالبنط السميك.

من هو صالح الحاجة الإنسان الذي يختفي وراء صالح الحاجة الكائن الورقي أو "القلم"، وما هي المعطيات التي وضعها مبثوثة ومتقطّعة في أكثر من صفحة في شهادته حول سيرته الشخصية منذ الطفولة؟ ما هي الوجوه الصحفية التي اقتدى بها وتعلّم منها اساسيات مهنة دخلها شابا الى درجة أن مدير الصباح الحبيب شيخ روحو عندما رآه أول مرة ظن أنه واحد من أبناء الصحفيين رافق والده الى كواليس الجريدة؟ كيف ارتبط صالح الحاجة بمهنة لا يتحدّث عنها سوى بمعجم "العشق" و"السكر"، لكنه خبر ما بين الوجه الحالم للصحافة والواقع على أرض الميدان، من مسافة وتناقض، وهل فعلا انتهت القصة بالهزيمة كما يعلن ذلك و"من الحب ما قتل"؟ لماذا رافقه وسكنه "الخوف" في كل مراحل حياته المهنية الى درجة اللّجوء الى المسكنات حسب وصفة الطبيب؟


مجلّة سندباد المصرية للأطفال أول مجلة والمعلّم أول رئيس تحرير.

صالح الحاجة أصيل توزر ويذكر بفخر أن والدته "شابية" ولا يتردد في الحديث عن بساطة عيشه في الطفولة وتحمّله مبكّرا "مسؤولية أم وأخوة" وكان يتصوّر الى سن 22 أن الأغنياء هم من "يأكلون لحم الدجاج" (ص: 15).

أوّل مجلّة كان يلتهمها بنهم وهو طفل كانت مجلّة سندباد المصرية، يقتنيها من مكتبة قرب جامع الزيتونة ومن وقتها داوم على شراء الجرائد و المجلات الى درجة أن صاحب الكشك كان يقول له مازحا، كل هذا المال الذي تشتري به الورق يمكن أن يشتري لك عمارة (ص: 23). وأوّل من أصلح "مقالاته"، وهو في الخامسة ابتدائي المعلّم الفاضل عبد الحق الزغواني الذي رسم على إحدى ورقاته "ستصبح من أكبر الصحفيين" (ص: 22). وبادر في السنة السادسة ابتدائي مع صديق بشراء لوحة طابعة طينية تسمح بالاستنساخ ونشر أول جريدة في صفحة واحدة بعنوان "المسار".

لا يتردد المراهق في التوقف أمام باب مطبعة صغيرة، أو هو أحيانا يسترق النظر من الخارج عبر شبابيك مطبعة في الدور الأسفل منبهرا في لحظة استباقية بهذا العالم الذي سيسكنه طوال العمر، حيث تصنع الجرائد. "كانت مطبعة العمل عندها نوافذ أرضية من جهة نهج عنّابة فكنت أجلس على الرصيف وأقضي الساعات، وأنا أتفرّج على العماّل وهم يشتغلون. وكانت تلك الساعات خارج الزمن. كنت خلالها اشعر بسعادة." (ص :49).

راسل صالح الحاجة جريدة الراي العام اللبنانية، ونشر فيها حوارا للفنان المغني علي الرياحي، ثم أقام في بيروت وتعرّف على البيئة الصحفية و الفكرية "في بيروت حيث تبرمجت" وأجرى مقابلات مع ميخائيل نعيمة ونزار قباني (ص: 18). نشر قصّة في مجلّة الفكر (ص: 70) ونشر سنة 1965، أول مقال في الجريدة اليومية الصباح التي سينتمي اليها لاحقا سنة 1969. أنجز برامج إذاعية في الإذاعة التونسية باسم مستعار "أيوب" (ص: 63).

بين التوبيخ الرسمي وجائزة رئيس الجمهورية للصحافة

ذهب أكثر من مرة الى المحاكم بسبب مقالة أو خبر وعرف استجواب حاكم التحقيق أو وكيل الجمهورية ووصله استدعاء من إدارة الشؤون السياسية في وزارة الداخلية وبلغه "توبيخ" من إدارة الاعلام بالوزارة الأولى.

كما عرف الوجاهة وتمّت دعوته مرتين لحضور عرض مسرحي ثم عرض موسيقي في قصر قرطاج بحضور الزعيم الحبيب بورقيبة، لكنه لم تتح له فرصة مصافحته (ص: 45)، كما تحصّل على أول نسخة من جائزة الهادي العبيدي للصحافة، التي بعثها الرئيس زين العابدين بن علي، وقال له "أنت بلومة" وهي العبارة الفرنسية لكلمة "قلم".

غادر جريدة الصباح لبعث "مشروع عمري وشمعة حياتي"، جريدة الصريح سنة 1995. (ص: 80 و19)، وتحولت الى جريدة يومية قبل أن تغلق الطبعة الورقية سنوات قليلة بعد الثورة وكانت قد نشرت مذكرات الرئيس المنصف المرزوقي وحمادي الجبالي رئيس الحكومة وفتحت صفحاتها لمقالات بإمضاء الأستاذ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة (ص: 78). وانسحب صالح الحاجة من "بحر من بعد 14 جانفي (ص: 48)، بعد أن "خدمت الصحافة 60 سنة"، "فأنا خبير بأهل بلدي، وعليم بتقلّبات الدهر وثقافة "الدنيا مع الواقف".

أساتذة صالح الحاجة وقدوته في الصحافة

"أنت خرّيج مدرسة الحياة، وهي لا تقلّ شأنا عن الجامعات لمن عرف كيف يستفيد من تجاربها حلوها ومرّها، والتحمت في مسيرتك مدرسة الحياة بمدرسة الصحافة فكان النجاح..."، جاءت هذه الكلمات في رسالة وجّهها الدكتور حبيب الجنحاني أستاذ الحضارة العربية والكاتب الصحفي الى صالح الحاجة في سبتمبر 2010. وفعلا توقّف صالح الحاجة العديد من المرّات ليتحدّث عن أساتذته في الصحافة، فرسم بورتريهات سريعة ولطيفة وضع فيها كل التقدير والامتنان إلى كوكبة من المهنيين التونسيين والعرب، اقتدى بهم عبر مطالعات أو حظي بزمالتهم وخاطبوه مباشرة واختصروا له شعاب المهنة، وهو في خطواته الأولى، وقدّموا له عصارة تجاربهم، أو استوحى هو من مواقفهم وسلوكياتهم ما فهمه منهم من مقوّمات وخصوصيات وأساليب عمل المهنة الصحفية.

تعلّم من محمود بيرم التونسي مؤسس جريدة الشباب في الثلاثينات من القرن الماضي، أن "الاشتغال بالصحافة لعشر سنوات هو كالعيش في أدغال افريقيا 10 سنوات وهو أيضا كتمضية عشر سنوات في السجن بالأشغال الشاقة" (ص: 12). وزامل أول رئيس التحرير والدماغ الصحفي لجريدة الصباح، الهادي العبيدي لكنّه اعتبر أيضا بنهايته في العزلة وقلّة الاعتراف من مؤسسة ومن مهنة ومن سلطة منحت اسمه لأول جائزة رئاسية للصحافة في تونس تمّ تأسيسها في بداية حكم الرئيس السابق بن علي (ص:29)، ومن البشير بن يحمد مؤسس جريدة جون أقريك ذات الانتشار الدولي تعلّم بديهية "تقلّبات المواقف" في السياسة وكأن صالح الحاجة، دون أن يفصح ذلك يوجّهنا أن الصحافة يصحّ فيها ما قيل عن الحرب أيضا، أنها شكل شكل من السياسة لكن بأساليب أخرى.

لم يجرؤ على مخاطبة حسين الجزيري، الذي دخل الصحافة بموهبة كبيرة وسنوات دراسة قليلة في جامع الزيتونة، عندما كان يراه منفردا يجلس في مقهى مع خريف العمر، لكن الصحفي الشاب صالح الحاجة، بحث عن مناقبه وتأثر بتجربة جريدة "النديم" التي أسسها حسين الجزيري سنة 1921 واستمرت في الصدور 22 سنة، وهي فترة معتبرة بالرجوع الى الوفيات المبكرة للمشاريع الصحفية التونسية. وكانت النديم "طيلة سنوات عمرها، ضاحكة مبتسمة "متملحة" ساخرة. صفحاتها محدودة، ولكن مادتها غزيرة، وأركانها "بنينة"، و طرائفها متجدّدة، و حسين الجزيري صاحب قلم ساخر ساحر لاذع، يقسو على كل ما هو (عوج)، و قسوته هذه لا تجرح القارئ بل تضحكه و تسليه و ترفّه عنه..."

يقول صالح الحاجة، "تعلّمت ألفباء الصحافة في قهوة" وهو يستمع الى زملاء مثل حسن حمادة ومحمد عرفة منسية وهو "الصحفي الذي لم يأخذ حظه لا حيا ولا ميتا".

ويذكر الكاتب عدة أسماء من المدرسة المشرقية ومنها محمد حسنين هيكل الذي لا يفخر بلقب آخر غير "جورنالجي" رغم وصوله الى مرتبة وزير وحظوته لدى الزعيم عبد الناصر الذي قال عنه، هيكل هو الصحفي الذي يخبرني ويقدّم لي التحاليل بينما غيره من الصحفيين، ينتظرون مني أن أخبرهم (ص: 21). كما يتوقّف عند تجربة الصحفي اللبناني ألبير أديب، صاحب المجلة الشهرية "الأديب": "لا يمكن أن تصدّق أن تلك المجلة تستنزف صحة رجل لا حياة خاصة له وعقله، ومشاعره، ووقته وجهده. فهو يقضي أيامه من الصباح الى المساء في الكتابة والتصحيح والمراجعة وقراءة ما يحمله له البريد يوميا من انتاج الأدباء العرب في المشرق والمغرب...".

معجم العشق

إذا تحدّث صالح الحاجة عن المهنة الصحفية، فلا يجد سوى معجم العشق ليروي قصّته مع مهنة بدأ يمارسها بعفوية سنوات عديدة قبل أن يقع انتدابه. فهو لا يتردد في تكرار في أكثر من موقع من الكتاب، عبارات مثل العشق والسكرة والجنون (ص: 13) ويقارن ما أصابه من الصحافة بما أصاب غيرة من "بلية" النساء ومن "الحب ما قتل"، ويعرف أنه يتقاسم هذه "الدودة" حسب التعبير العامي التونسي، مع قلة من المهنيين.

أما "الشيخة الكبرى" (ص: 74) فهي أن يصل الى القارئ. و قد يرى الشباب اليوم عن خطأ، أن الوصول إلى القارئ بديهي ولكن كل مطّلع على انتشار الصحافة المكتوبة في تونس يعرف أن الصحافة المكتوبة كانت محدودة الانتشار تقتصر على النخبة في السبعينات والثمانينات وأن جريدة الصباح التي كان يعمل بها صالح الحاجة، كانت الأكثر انتشارا نسبيا في ذلك الوقت، وأن جريدة الصريح التي أسسها صالح الحاجة منتصف التسعينات، نجحت في أخذ مكان لائق ضمن تيار "الصحافة الشعبية" مطلع التسعينات، التي عرفتها تونس مع البيان والأنوار ثم الشروق وهي تجارب خاضها علم آخر من أبناء دار الصباح، وهو الأستاذ صلاح الدين العامري.

وعالم العشق كما هو معلوم متقلّب، وهو ما يجعل صالح الحاجة أكثر من مرّة يراجع قراراته بعد فوات الأوان، ويكتشف خدعة العشق قيجد نفسه منغمسا ومسخّرا حياته لبناء "قصور من ورق".



ثنائية صحافة الحلم وصحافة الواقع

يقول صالح الحاجة: "بعد أن احترفت واحترقت...لأول مرة أعرف الصحافة وألمسها وأكتشف أسرارها وأدرك خطورتها وهولها ورعبها وثقل ماكينتها. إنها تختلف تماما عن الصحافة التي كنت أعرفها وأنا أشتريها من البائع وأطالعها وأنا في البيت أو في المقهى..." (ص: 18).

وتتكرر أكثر من مرّة هذه الثنائية بين صحافة المخيال والحلم وصحافة الواقع "وشاءت الأقدار أن أصطدم بحائط الحقيقة"(ص: 11)، "كنت أعرف أنني أحرث في البحر...كنت أعرف أنني لا أمارس الصحافة التي حلمت بها، كنت أعرف أنني لا ألعب اللّعبة التي اريد...". ويضيف "كنت أوهم نفسي بأنني نجحت وأنني حققت حلم حياتي. كنت في النهار مع الناس الصحفي الناجح...أما عندما أضع رأسي فوق المخدّة...وتلتقي نفسي بنفسي...أتذكّر الشيكات دون رصيد، والالتزامات والتهديدات، والتوبيخ والتعليمات، يهرب مني النوم...".

"الموضوعية والنزاهة والحياد..." وهي الكلمات التي كثيرا ما تستعمل لتحديد العمل الصحفي والتعريف به، "ما هي إلا كلمات" حسب صالح الحاجة وهي "عطره المفضّل" (ص: 57)، لا تصمد أمام "ماكينة الصحافة والسستم الصحفي والإعلامي عموما" الذي "يكسر العظام"(ص: 58).

يتساءل صالح الحاجة عن مقومات النجاح الصحفي ويميّز بين إنجاز الجريدة في مضمونها وتحريرها وهو أساس المهنة الصحفية، و"صناعة" الجريدة وتسويقها: "لنتّفق أولا أن تأسيس الجريدة وإصدارها بانتظام يختلف تماما عن كتابة مقال أو القيام بربورتاج صحفي أو باستجواب شخصية ما. فلا علاقة لإنجاز الصحيفة بصناعتها. الإنجاز عمل صحفي بحت يتطلّب موهبة، ومهارة مهنية، وقدرة على متابعة الأحداث وتحليلها، واقتناص الأخبار والانفراد بها." ويواصل: "أما الصناعة فهي عملية تجارية ومالية واقتصادية تماما تتطلّب عقلية تجارية ومعرفة عميقة بالسّوق وأحكامه ومتطلّباته... والصحفي لا يملك هذه المؤهلات التي تتطلّبها هذه الصناعة الثقيلة..." (ص: 66).

ويقول في نفس الاتجاه: "لا يكفي أن تكون الجريدة جيّدة الاتجاه والإخراج والتبويب والمحتوى...لا بد أن يرضى عنها القارئ ويشتريها ويدفع ثمنها...ولا بد ّللمعلن أن يقبلها...ويدرك أهميتها ورواجها...". ويرى أن "الخلط بين الموهبتين هو الذي أدّى بالكثير من الصحفيين إلى استسهال تأسيس صحفهم الخاصة فكانت النتيجة كارثية، لم يتوقّعوها بالمرة... (ص: 66).

ويطرح صالح الحاجة السؤال التاريخي المحيّر، على ضوء تجربة تكاثر الجرائد بعد الثورة وسرعة اندثارها: هل حرية التعبير التي طالما تصوّرناها الحلقة الناقصة قبل الثورة في التجربة الصحفية التونسية، هي العنصر الوحيد الذي تتطلّبه مغامرة الاقدام على بعث جريدة؟

الخوف مدى الحياة في نظام الحكم الفردي

أكثر ما فاجأني في هذا الكتاب ووجد صدى في نفسي، هو حديث صالح الحاجة بصفة متكررة من أول الكتاب على آخره عن الخوف الذي سكنه ورافقه: "لقد اشتغلت بالصحافة وكأنني كنت أشتغل في معتقل للخوف. والخوف ظل يلازمني طوال عمري، الخوف من قطع الرزق، الخوف من العقاب، الخوف من السجن، الخوف من البطالة، الخوف من الشماتة، الخوف من الخطأ." ويواصل: "كنت أكتب ثم أظل في حالة خوف، أنشر الخبر ثم لا أتوقع إلا المصيبة التي ستنزل على رأسي..."(ص: 14-15).

والخوف ليس فقط مشاعر وهواجس لكنه تجسّم أمام أعين الصحفي عبر تجارب غيره من الزملاء: "لقد رأيت بعض زملائي و هم اقدم مني في المهنة يتعرّضون إلى مضايقات، و هرسلات وتهديدات...أذكر على سبيل المثال استاذي و أبي الروحي الهادي العبيدي وهو من هو قامة و قيمة...رأيته (يتمرمد)..."(ص: 27).

وعندما انتقل صالح الحاجة من مهمة الصحفي الى مهمة صاحب مؤسس صحفية واجه الخوف بصفة ملموسة: "قد لا يصدّق المرء أنني لم أبك في حياتي مثلما بكيت عندما وقفت أول مرّة في محكمة وكان بسبب شيك بلا رصيد."

ويزداد الخوف رسوخا عندما يكون أعوان السلطة يتّهمونك ولا يرسمون لك بوضوح ما يرغبون فيه ومن أغرب الدعوات العاجلة التي يرويها صالح الحاجة لقاؤه مع مسؤول مستاء لما نشر: "و دون مقدمات أخذ عدد الجريدة لذلك اليوم و رماه بعنف وغضب وقال لي وهو يصيح ما فيش فائدة معاك، نبهناك و حذرناك...نعلمك يا سي الشباب الي اليوم ثمة تساؤلات في أعلى مستوى حول وطنيتك..." ويواصل صالح الحاجة: "غادرت...ولم أفهم إلى اليوم الموضوع الذي استدعاني من أجله. هذا مشهد وكأنه مستقطع من رواية "القضية" Le Proces للكاتب التشيكي كافكا Kafka ،حيث تدور كل الأحداث حول متهم يريد أن يعرف ما هي التهمة الموجهة له وهو من مكتب الى مكتب، ومن محقق الى محقق.

شهادة صالح الحاجة الصحفي وصاحب مؤسسة صحفية مساهمة شجاعة في رواية ما عاشه الكاتب وهي بقدر ما تكشف جوانب من قصة شخصية، تسمح أيضا بفهم ظروف العمل الصحفي وتعقيداته في نظام الحكم الفردي خارج الأحكام المسبقة والاسقاطات الكسولة. فعلا كتب الأستاذ صالح الحاجة 81 صفحة، يلعن فيها الصحافة أكثر من مرّة، لكن لن يصدّق لعنته، سوى من لم يذق ولم يتذوّق مثله سحر "العسل المر"، حسب عبارة بليغة وضعها زميله في جريدة الصباح، عبد الجليل دمّق في عنوان مذكّراته (2007). وللعشاق فيما يعشقون مذاهب.

jendoubimehdi@yahoo.fr

تم نشره في ليدرز العربية 7-6-2023 :

https://ar.leaders.com.tn/article/6808-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A9