بحث

ماهر عبد الرحمان: يوميات حامل "ميكروفون" 2015

ماهر عبد الرحمان، يوميات حامل "ميكروفون"، منشورات سبكتروم للإنتاج السمعي والبصري، تونس،2015، 381 ص.



مقتطفات من المقدمة:


«بقدر ما تعج المكتبات العربية بالدراسات عن الاعلام و بدروسه التي لا يطبقها أحد إلا بالكاد، تندر على الرفوف مذكرات الاعلاميين العرب عن ظروف عملهم في مؤسساتهم و خفايا الممارسات السياسية للتحكّم في ما ينتجونه. لم يكتب منهم إلا قلة قليلة ممن تحولوا لاحقا إلى سياسيين، و بالتالي فان مواد البحث في علاقة الاعلامي بالسياسي في مجال سوسيولوجيا السياسة هي أمر يكاد يكون منعدما. لكن لو كتب الاعلاميون العرب في مآسي الاعلام العربي لفاضت الودية بحبرهم. فليس من السهل على أحد في دول تقمع الكلمة المستقلة و الحرة أن تفضح الممارسات اليومية التي تجعل الصحافيين و المنتجين ابواقا لقصور الحكم رغما عن قناعاتهم. فسياسات التجويع التي تنتهجها هذه الحكومات قادرة على إسكات اية محاولات لكشف كواليس غرف التحكم في هذا الاعلام، و تقتل في مهدها أية مبادرات للإصلاح أو حتى للتحسين.

لا تعتبر سيرتي الذاتية و المهنية شيئا خارجا عن المالوف أو أن حياتي الشخصية تتميز عن سواها لمن هم في سني و تجربتي. عشت ما عاشه غيري من مواليد عهد ما بعد الاستقلال في تونس. دخلت مدارس الشعب وجامعاته التي أسسها بورقيبة. و بخلاف دورات تدريبية مهنية و جامعية في الولايات المتحدة، لست من حملة شهائد هارفارد ولا السربون.

لم أتحمّل مناصب عليا، بل شغلت مناصب مسؤوليات وسطى في الاعلام التونسي و الدولي، ليس لأن الفرص لم تتوفر، بل بسبب مواقفي الشخصية الرافضة لأن أكون في خدمة الدكتاتورية بمحض إرادتي، و طرفا في الفساد الذي استشرى في الاعلام العمومي قبل الثورة. عرضت علي رئاسة مؤسسة التلفزة بالترهيب ثم بالترغيب. كان ذلك المنصب يوازي حقيبة كاتب دولة في الحكومة أي انه موطأ قدم محتمل لمن يكبر طموحه فيطمع في وزارة أقلّه تخليدا لاسمه في التاريخ. لكن لم تعن لي المسؤوليات الكبيرة أي شيء حتى بعد الثورة. لست ممن يتهافت عليها ولا يبحث عن تحملها إن لم تكن لي حرية العمل الكامل وحسب خطط و برامج واضحة يتم التصديق عليها مسبقا. لكن بالمقابل خصصت وقتا كبيرا وتطوعا، في الابحاث و الكتابة والمساعدة على تحسين الأداء الاعلامي في مؤسستي الاذاعة و التلفزة التونسيتين، تلكما المنشأتان اللتان كانتا في وقت ما مؤسسة واحدة انتميت إليها قرابة الخمس عشرة سنة قبل أن أغادرها لفضاء الإعلام الدولي الخاص.

(…)

من السهل أن يصدر من لا يعرف من المشهد سوى ما يعرض على خشبة المسرح، ولا يدري بتفاصيل كواليسه أو لا يفهم آليات عمله، أحكاما عامة سريعة تنقصها الدقة. لذا حاولت أن أفكك هذا المشهد الداخلي و أنقله كما عشته او كما نقله إلي من عاشه بنفس الظروف و أثق بشهادته. و تحفظت قدر المستطاع عن التحليل في غير المسائل التقنية والأطر السياسية لأترك المادة خاما للتمحيص و المقارنة لمن يريد أن يعتمدها كمصدر لأية أبحاث لاحقة ».

(...)

مقتطفات من الكتاب (ص 36-39)


(…) « انتقلت إلى شعبة الآداب في معهد الذكور بصفاقس. وبما أنني كنت مغرما بالأدب، دخلت نادي القصّة وكتبت محاولات بسيطة في الأدب الرمزي حظيت بنقد محترم في النادي. وكنت وزملائي نتبارى في حفظ الشعر وإلقائه بساحة المعهد. حفظت قصائد عديدة لشعراء عرب من مختلف العصور كانت قاصائدهم وأغراضها مبرمجة في دروسنا. ثم ومع بداية المراهقة، شغفت بنزار قباني، فحفظت له عن ظهر قلب قصائد طويلة عديدة.

كتب بعض اصدقائي محاولات شعرية وجودية تعكس بحث المراهقين عن ذاتهم، فكنت أقرا هذه القصائد في جلساتنا بطريقة مسرحية وصوت جهوري. بدأت بالتسجيل على قارئ أشرطة من تلك التي كان يتم توريدها من ليبيا للاستماع إلى الأغاني في البيوت. وكنت مغرما بتقليد مذيعي الأخبار، فأقرأ جريدة والدي على ميكروفون المسجل، وأعيد التسجيل والاستماع مرات ومرات. لم تفارق ذهني فكرة أمي أن أحد أبنائها سيكون صحفيا في يوم ما.

بدرت لي ولصديقي الشاعر الصغير فكرة إلقاء قصائده في برنامج كانت تنتجه إذاعة صفاقس الجهوية واسمه "نادي المواهب"، ونجحت الفكرة وكان البرنامج مسجلا، وتتم إذاعته بعد أسبوع مع رأي لجنة من المنتجين و المخرجين. وتفاجأت المرة الثانية أن المخرج عبد القادر السلامي أثنى على صوتي وقراءتي وصوتي ووجه لي الدعوة عبر البرنامج نفسه للمشاركة في تسجيل برامج فعلية بالإذاعة.

قفزت فرحا، وابتسم أبي وكان قليل الضحك في البيت، وأخبرت أمي كل الجارات. كنت في السابعة عشرة من عمري آنذاك. تقدمت للإذاعة و أخضعني المخرج لتجربة صوتية لنص إخباري طويل، لكن دقات قلبي كادت تخرجه من صدري من سرعة خفقانه، فانقطع نفسي واختنق صوتي بفعل الرهبة. نصحني المخرج بمواصلة التدريب في البيت، وأمهلني شهرين آخرين، ولما عدت إليه، بدا وكأنه ينتظرني. أدخلني مباشرة إلى الاستديو للمشاركة في تسجيل برامج مع آخرين من ضمنهم الممثل و المذيع القدير محمد المصمودي. كان السلامي يخرج أشهر برنامج اجتماعي في إذاعة صفاقس ويحمل اسم "دبّر علي". يحكي مواطنون قضاياهم في رسائل إلى الإذاعة طلبا للنصيحة، فيعيد المنتج والاستاذ محمد الحبيب السلامي صياغة القصص في سيناريو يتم تمثيله إذاعيا، وبعدها يناقش أخصائيون الموضوع الاجتماعي لتقديم نصائحهم. أعطاني هدوء المصمودي وثقته بنفسه الكثير من السكينة أمام الميكروفون. كنت أقوم بدور الراوي في المسرحية الإذاعية، واستمر الأمر اشهرا عديدة.

بعدها إلتجأ لي مدير الأخبار، الراحل محمد الفوراتي لتسجيل برامج إخبارية، ثم وفي سنتي الثانية بالإذاعة، عرض علي قراءة نشرات الأخبار مباشرة على الهواء و كنت وقتها في صف الباكالوريا. فعلت ذلك لمدة عام دراسي كامل، و كنت أحاول الوصول أبكر وقت ممكن حتى أستمع إلى حكايات و نكت الفنان الكبير محمد الجموسي. كان الجموسي يعيش وحيدا وقد أخذ منه الكبر مأخذا. خصص كامل حياته لموسيقاه و أغانيه الجميلة. يدخل الإذاعة صباحا ليقضي بعض الوقت في التسلي و حكاية النكات مع الموجودين في الاستديو قبل أن ينصرف ليومه. كنت أستعمل وقتها دراجة هوائية تركها لي أبي بعد شرائه سيارة، فاذهب إلى الإذاعة صباحا وأقرأ نشرة السابعة والنصف، ثم أسرع نحو المعهد.

لم تكن لي اية فكرة إن كنت سأتقاضى أجرا على عملي ذلك في الإذاعة. إشتغلت لسنتين كاملتين وبصفة يومية ولم اسال عن أية أجرة. كنت في ذلك الوقت أيضا أصنع أكاليل كهربائية كبيرة تزين سقوف السيارات في الأعراس، وكسبت منها مالا كبيرا فاق مداخيل أبي من الجيش، فساعدت عائلتي وغطيت كل عجز في المصاريف ولم أحرم نفسي من لباس أو من التسلية لشاب في عمري.

(…)

أعطتني إذاعة صفاقس فرصة للتدريب الصلب على أيدي أساتذة أجلاء سواء من البرامج أو الأخبار أو المسرح الإذاعي. تعلمت ليس فقط على أيدي المخرج عبد القادر السلامي ورئيس التحرير محمد الفوراتي ومحمد المصمودي، بل من مذيعين ومذيعات متميزين كنجيبة دربال وعبد الجليل بن عبد الله، وعبد الكريم قطاطة و غيرهم.

لم أكن الشاب الصغير الوحيد في الاذاعة، بل هناك آخرون. ساعدنا سابقونا ونقلوا إلينا خبراتهم بكل عطف وأريحية رغم أننا كنا في ذلك الوقت أقرب للهواة منا إلى المهنيين. لم نشعر في أية لحظة أننا غرباء، بل بين أهلنا وأصدقائنا، لم يصفنا أحد بأننا "فروخ" كما فعلوا في مؤسسة الإذاعة والتلفزة بتونس لاحقا ولا أشعرونا بأننا ننافس أحدا. كان الجميع يسال عن دراستنا، ويفخرون بنا و يمازحوننا. يرددون على مسامعنا دائما أننا في حضانة رهور بإذاعة صفاقس وينتظر منا الجميع أن نواصل دراستنا لنفرد أجنحتنا لاحقا على مستوى الإعلام الوطني.

(…)

حصلت على الباكالوريا بصفاقس، وشددت الرحال لدخول الجامعة بتونس فكانت مرحلة جديدة بين الدراسة والإعلام.