بحث

من الصدور الدوري إلى الإعلام المسترسل

ارتبطت مهنة الصحافة منذ نشأتها بالآنية إذ هي تلتزم أمام القراء بتوفير الأخبار في أقرب وقت حتى يكون كل قارئ أول من يعلم بالحدث بمجرد اطلاعه على الجريدة. لا تقتصر الجريدة على توفير الأخبار و لكنها تقدم آخر الأخبار، أي كل ما كان يجهله القارئ قبل اطلاعه على الجريدة وما سيبقى يجهله غيره من الناس الذين لا يطالعون الجرائد. لذلك تعتبر كل كتب الصحافة عنصر الآنية أو الحالية من أهم القيم الإخبارية عند قرار النشر أي عند المراوحة بين ما يستحق نشره من الوقائع و ما يمكن إهماله.

و تمثل نشأة الجرائد الالكترونية في العشرية الأخيرة من القرن العشرين نقلة نوعية جديدة في تقليص الوقت المخصص لتوزيع الأخبار الى درجة أن البعض يعتبر أن مصطلح الدورية لم يعد ملائما لأن توزيع الأخبار أصبح يتدفق بصفة مسترسلة و تعطي هذه الخاصية صفة مميزة تجعل الجرائد الالكترونية تحقق درجة آنية مرتفعة بالنسبة إلى الجرائد اليومية و حتى بالنسبة إلى محطات الإذاعة و التليفزيون، إذ يمكن إدراج خبر جديد في كل لحظة يضاف إلى سيل الأخبار السابقة.

و استطاعت تقنيات الإعلام و الاتصال الحديثة أن تقلص إلى أقصى حد الزمن المخصص لأنتاج الوعاء (مرحلة الطباعة) و لتوزيع الجرائد فأصبح الموضوع الصحفي جاهزا للقراءة من قبل المتلقي فور الانتهاء من تحريره.





من الصدور الدوري إلى الإعلام المسترسل

وثيقة من إعداد:

د.المهدي الجندوبي

ارتبطت مهنة الصحافة منذ نشأتها بالآنية إذ هي تلتزم أمام القراء بتوفير الأخبار في أقرب وقت حتى يكون كل قارئ أول من يعلم بالحدث بمجرد اطلاعه على الجريدة. لا تقتصر الجريدة على توفير الأخبار و لكنها تقدم آخر الأخبار، أي كل ما كان يجهله القارىء قبل اطلاعه على الجريدة وما سيبقى يجهله غيره من الناس الذين لا يطالعون الجرائد. لذلك تعتبر كل كتب الصحافة عنصر الآنية أو الحالية من أهم القيم الإخبارية عند قرار النشر أي عند المراوحة بين ما يستحق نشره من الوقائع و ما يمكن إهماله.


1. مختلف مراحل الخبر:

بين وقوع الحدث في الواقع و وصول الخبر إلى القارئ عدة مراحل يحتاج تنفيذها إلى مدة زمنية تطول أو تقصر، و تتراكم هذه الحصص الزمنية فتكون سببا في الفارق الزمني بين زمن وقوع الحدث و زمن اطلاع القارئ على الخبر، و كلما نجحت الجريدة في تقليص هذا الفارق كلما حققت درجة أنية مرتفعة إلى حد تزامن وقوع الحدث و اطلاع المتلقي عليه مثلما يتحقق ذلك في التغطيات التليفزيونية المباشرة .

·        بين وقوع الحدث في الواقع و علم الصحفي به قبل التغطية

بغطي الصحفي الأحداث المتوقعة و الأحداث غير المتوقعة و إذا كان الحدث المتوقع يسمح للصحفي بالتواجد قبل الحدث و متابعته بصفة مباشرة مثل مقابلة كرة القدم أو جلسة في مجلس النواب، فان الأحداث غير المتوقعة مثل اندلاع حريق أو انفجار قنبلة أو استقالة رئيس بلدية، لا يعلم بها الصحفي إلا مدة قد تقصر أو تطول بعد اندلاعها أو انتهائها.

·        مرحلة التغطية الميدانية

يحتاج الصحفي إلى وقت عمل عند وصوله للميدان لمتابعة مختلف أوجه الحدث في صورة الحدث المتوقع أو لمعاينة بعض آثار الحدث في صورة الحدث غير المتوقع و ملاحقة المصادر التي ستسمح بإعادة تركيب صورة وقوع الحدث و صياغة مادة إعلامية قابلة للنشر.

·        إرسال النسخة إلى مقر الجريدة

يسلّم الصحفي الموضوع مباشرة عند عودته إلى المقر في صورة وجود الميدان على مقربة من المقر و لكنه في أغلب الأحيان يحتاج إلى إرسال النص بأية وسيلة نقل         ( باخرة، قطار، سيارة، طائرة) أو اتصال متاحة ( التلغراف، الهاتف، البريد الالكتروني)

·        المراجعة و الإخراج

فور وصول النص إلى المقر يطلع عليه المحرر قصد تعديله و إقراره للنشر ثم يسلم للمخرج الذي سيحدد موقعه في الصفحة و يعالجه تيبوغرافيا قصد تهيئته للطبع.


·        مرحلة الطبع و التوزيع

تسمح بطبع الجريدة و نقلها من المطبعة الى الأكشاك و مختلف نقاط البيع أو الى مركز البريد و هكذا يتم اللقاء بين الحدث و بين الجمهور.


يتحدد الوقت المخصص لتنفيذ مختلف المراحل اللازمة لجمع الأخبار و معالجتها و توزيعها، حسب الكفاءة المهنية لكل صحفي و حسب أساليب تنظيم العمل المعتمدة في المؤسسة الإعلامية و حسب التقنيات المعتمدة في إنتاج الوسيلة الإعلامية و حسب سرعة وسائل النقل و حسب سرعة وسائل الاتصال المعتمدة.


2. من الجريدة الدورية الى الجريدة المسترسلة


 مثل الصدور المنتظم للجرائد نقلة نوعية رئيسية بالنسبة الى صدور الكتب و هو الشكل المطبوع الدارج قبل نشأة الصحف، الى درجة أن هذه الميزة أصبحت تعتمد مقياسا للتعريف القانوني للصحف هذا اضافة الى أنتشار أهم ظاهرة اتصالية في المجتمعات الحديثة و هي خلق عادة شراء الصحف و قراءتها بصفة منتظمة.
و سمح تطور تقنيات إنتاج وسائل الإعلام و الاتصال ووسائل النقل و اعتمادها في مختلف مراحل العمل الصحفي بتقليص الوقت المخصص لكل مرحلة من مراحل جمع الأخبار و تويعها و تمكنت الصحف من الصدور في أوقات متقاربة أكثر فأكثر إلى أن نشأت الجرائد ذات الدورية اليومية و مثلت نقلة نوعية بالنسبة الى الدورية الشهرية أو الأسبوعية.

بين صدور عدد و آخر يكون العالم من وجهة نظر القارىء و كأنه متوقف اذ الصدور الدوري يعتمد نشر الأخبار على وتيرة دفعات منتظمة و بين الدفعة و الأخرى هناك صمت اعلامي، فاصبح الصدور الدوري للجريدة يحدد وتيرة العالم لأن العالم لا وجود له في ذهن القارئ إلا عبر النافذة التي تسمح بها الجريدة و هذه النافذة مثل ستار خشبة المسرح تغلق و تفتح في أوقات محددة.

و استقر الوضع هكذا منذ نشأه الجرائد اليومية الى اختراع الراديو ثم التليفزيون اللذان سيدخلان وتيرة دورية أسرع و سيفتحان نافذة العالم أكثر من مرة في اليوم حسب عدد نشرات الأخبار فتتقلص المدة الفاصلة بين وقوع الحدث و اطلاع المستمع و المشاهد عليه الى درجة تحقيق التزامن الكامل مع بعض التغطيات المباشرة حيث يكتشف المتلقي الحدث مع الصحفي.

و تبقى التغطيات المباشرة محدودة زمنيا أو استثنائية و حافظت المحطات الاذاعية و التليفزيونية على التوزيع الدوري للأخبار حتى و ان تقلصت هذه الدورية الى نصف ساعة بالنسبة الى النشرات الموجزة في بعض المحطات ذات الصبغة الاخبارية البحتة.

و تمثل نشأة الجرائد الالكترونية في العشرية الأخيرة من القرن العشرين نقلة نوعية جديدة في تقليص الوقت المخصص لتوزيع الأخبار الى درجة أن البعض يعتبر أن مصطلح الدورية لم يعد ملائما لأن توزيع الأخبار أصبح يتدفق بصفة مسترسلة و تعطي هذه الخاصية صفة مميزة تجعل الجرائد الالكترونية تحقق درجة آنية مرتفعة بالنسبة إلى الجرائد اليومية و حتى بالنسبة إلى محطات الإذاعة و التليفزيون، إذ يمكن إدراج خبر جديد في كل لحظة يضاف إلى سيل الأخبار السابقة.

و استطاعت تقنيات الإعلام و الاتصال الحديثة أن تقلص إلى أقصى حد الزمن المخصص لأنتاج الوعاء ( مرحلة الطباعة ) و لتوزيع الجرائد فأصبح الموضوع الصحفي جاهزا للقراءة من قبل المتلقي فور الانتهاء من تحريره.

و لا يفوتنا أن نلاحظ أن وكالات الأنباء التي نشأت في منتصف القرن التاسع عشر هي أول من مارس التوزيع المسترسل للأنباء التي كانت تجمع و تبث على الفور دون انتظار آجال محددة مثل بقية وسائل الإعلام التي تبث أخبارها بصفة دورية، و لكن خدماتها لم تكن تصل مباشرة إلى الجمهور العريض لأنها كانت تقتصر على توزيع الأخبار فوريا الى الجرائد ثم الى المحطات الإذاعية و التليفزيونية و أضيفت لها حديثا سوق المواقع الإخبارية على شبكة الانترنت.

يمكن أن نقول دون مبالغة أن الصحافة الالكترونية في نهاية القرن العشرين اكتشفت من جديد أسلوب عمل اخترعته وكالات الأنباء منذ أكثر من قرن و لكن الجرائد الالكترونية سمحت بتوزيع خدماتها الى عامة الناس بينما بقيت الوكالات مقتصرة على الأوساط الإعلامية المهنية.



المصدر: 
د.المهدي الجندوبي، كيف غيّر الإعلام الجديد أساليب العمل الصحفي، المجلة التونسية لعلوم الاتصال،عدد 51-52، 2010 ، ص: 61-72.