بحث

محمد قلبي: وصاياي العشر لصحفيي العصر 2000

رسالة الأحد

الصباح الأحد 14 ماي 2000

وصاياي العشر لصحافيي العصر

بحكم ثلث القرن الذي نبت على جبيني من يوم حدّثتني الأمّارة بالسوء لتنصحني بممارسة هذه المهنة، و بحكم البياض الذي صبغ به سواد الأيام، هذه الّحية المتطفّلة على ما أكتب، و بحكم اقترابي من ساعة رمي المنديل، بهذه الأحكام الثلاثة، و بها فقط، سمحت لنفسي اليوم بأن أحبّر هذه الوصايا العشر لأبنائي و أحفادي صحافيي الألفية الثالثة:


الوصية الأولى

لا تكتبوا للناس من فوق، فالكتابة من فوق السطوح، مهما علت، ستبدو للناس سطحية. ذلك أن ابن آدم، و من باب أولى و أحرى حفيده، يبغض أن يخاطبه الغير من فوق لأنه سيضطرّ في هذه الحالة، إلى إمالة رأسه الى الخلف، و هي وضعية مرهقة للرقبة و للدماغ في نفس الوقت، ثم أنها -و هذا هو الأخطر- تثير القارئ و تستفزّ كرامته و عزّة نفسه، فيغلق الجريدة، و يغلق بالتالي فم قلمكم، و يكون هو الرابح و أنتم الخاسرون !

فعوا وتواضعوا يرحمكم الله.

الوصية الثانية

...ولا تكتبوا للناس من تحت! فهذه الوضعية الثانية سيئة كذلك وسيئة جدّا. لأنكم إذا نزلتم الى التحت نزل مستواكم الى الحضيض وصرتم لا ترون عورة المجتمع، غير جنّه و جنونه، غير جرائمه و قضايا محاكمه، غير أشباحه، الخارجة من المقابر، غير منجّميه الكاذبين و لو صدقوا، وغير مهازله و خرائفه و هذيانه وسيره في طريق التخلّف والانحطاط والانحلال، والسلام عليكم و عليه.

فلا تكتبوا من فوق ولا تكتبوا من تحت، و اكتبوا من حيث شئتم عدا ذلك فالفضاء فسيح...و الكلام إذا احترم مستوى السامع كلام مريح، مليح.

الوصية الثالثة

إياكم، ثم إياكم ثم إياكم من الوعظ و الارشاد، فلا أنتم أئمّة، و لا صحيفتكم منبر جامع عقبة بن نافع. ثم أن قبلة القارئ ليست في نفس الاتجاه وقبلة المصلّي: القارئ قبلته كشك الجرائد و المجلاّت و المصلّي قبلته الكعبة. تصوّروا إماما يتلو من علياء منبر صلاة الجمعة، أبناء كوسوفو وتعاليق الصحف على اختفاء قطّة كلينتون من البت البيض، وستعلمون عندها كم أن وعظ الصحافي وارشاده، مجلبة للسّخرية والضحك. أو ليس يقال: لكلّ مقام مقال؟

فعظوا أنفسكم، إن شئتم أبنائي وأحفادي الصحافيين، و لا تقطعوا خبزة الوعاظ و المرشدين يحفظكم الله.

الوصية الرابعة

ضعوا أولا مقرن أعينكم حيث الحاجبين، أن القارئ يعرف كل شيء، فهو معلّم وهو أستاذ و هو مهندس و هو طبيب و هو موظف وهو عامل وهو بطّال، و كلّهم يعرفون كلّ شيء- أو ذاك هو اعتقادهم الدفين على الأقل- لذلك فإنهم لا يدفعون ثمن الجريدة ليتعلّموا...و إنّما ليعلموا الجديد، فإن كانت لكم معلومة إضافية فيا حبذا، و إلا فأن السكوت أفضل من إلقاء الدروس في السياسة أو الكياسة أو الخساسة او النجاسة أو في أية مسالة حسّاسة.

الوصية الخامسة

غالبا ما يحدث أن يكتب الصحافي ليعبّر عن رأي شخصي أو موقف خاص من هذه القضايا الكثيرة التي يزخر بها هذا الزمن. وهذا حق من حقوقه المحفوظة في بيان عصبة الأمم. إنما حذار، كونوا واضحين في مواقفكم وآرائكم، كونوا مقنعين بالحجّة والدليل، كونوا نزهاء موضوعيين، لأن القارئ ليس غبيا ليقتنع بما هو غير مقنع، و ليبتلع "الأحناش الضخمة" كما يقول الافرنج...و لأنكم -إلى أن يثبت ما يخالف ذلك- لا تكتسبوا الذكاء بجرّة قلم إن صحّ التعبير.

ثمّ على غرار ما قال أحد أحفادنا ألأفاضل رحمه الله، "متى استحمقنم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أذكياء؟ !".

الوصية السادسة

المفروض، بل ذلك هو الواقع، أن الجريدة مجعولة ليقرأها العامة والخاصّة. لذلك أوصيكم وصية أبوية: لا تكتبوا على الملأ "رسالة شخصية"، من حقكم أن تبدوا إعجابكم وتقديركم وحبكم لهذا أو ذاك، إنما إياكم، "الرسائل" الشخصية لا تمرّ (سلامات) عبر وسائل الاعلام. إنها تحطّ من قيمة المرسل وليس ثابتا أنها ترفع من شأن المرسل اليه.

فالتجئوا، يستركم الله، الى القنوات الطبيعية لتمرير مثل هذه المكاتيب. وسأذكركم باسمها ان غاب عنكم: إنها مصالح البريد والمواصلات.

الوصية السابعة

أنتم تعلّقون ممطراتكم ومعاطفكم "بالفستيار"، لما تجتازون عتبة الجريدة، أليس كذلك؟ لكن هناك شيء ثالث يجب أن تتركوه، خارج المكتب ايضا: انها مصالحكم الحياتية الخاصة الضيقة. انسوها الى حين إتمام عملكم وإن حدّثتكم الخبيثة بتسليلها في كتابتكم، علّقوا عليها الخط.

بهذا السلوك، وبهذا السلوك فقط، يعني بتحرركم من مشاغلكم ومصالحكم الذاتية، يمكنكم أن تحرروا مقالاتكم، بكل حرية. لأن الله كذلك لا يحرر قوما حتى يحرروا ما بأنفسهم!

الوصية الثامنة

مثلما أشرت سابقا في الحديث عن الوعظ والارشاد: لا تقطعوا أرزاق الناس، فكل نفس و ما رزقها الله. فلا تقطعوا أولا أرزاق الطبالة والبنادرية، ولا تزاحموهم في أخصاصهم ولا تكونوا دخلاء في عقر دارهم. هذا من جهة التطبيل. لكن هناك حرفة أخرى لها كذلك أهلها وأخصائيوها، وهي النعاق والندب والنواح، في مأتم البكاء والحزن و السواد الأعظم.

فلا الصحافة قاعة أفراح، ولا هي كذلك سقيفة للنواح!

الوصية التاسعة

أرى بعضكم أحيانا يختفي وراء اسم مستعار، أو الاقتصار على إمضاء ما أوحت له به قريحته، بالحرفين الأولين. كأنهم غير مقتنعين بما سوّدوا. وهذا من شانه -يا ويحي- أن يضر بضمير الكاتب، ان وجد له ضمير، وبمضمون المكتوب، ان وجد به مضمون، وبخدمة القضية ان وجدت قضية.

فيا أيها الذين تكتبون عن المسؤولين، أما تحملتم أولا مسؤوليتكم أمام الناس والتاريخ...أم أنكم لا تمضون ما كتبتم لأنه..."تكليخ"؟!

الوصية العاشرة

إذا خطر لكم أن تعملوا بالوصايا التسع المذكورة أعلاه، فإن وصيتي العاشرة والأخيرة هي حجر الزاوية، التي ان سقطت، سقط الهرم كلّه، و هي تتلخّص في حرف و كلمتين: لا تقلبوا الفيستة...مهما كان لونها أو شكلها.

ذلك أنكم لو فعلتم -لا قدّر الله- لجاءكم يوم و قال لكم الناس و أنتم تخاطبونهم: "اقلبوا وجهكم" !

محمد قلبي

مجرّب همزتو مرافقو

ملاحظة: أعرف أنني خرقت وصيتي الثالثة المتعلّقة بالوعظ والارشاد...لكن عذري أنني "خرفت" خلافا عنكم!

 

 

 

.

رقصة حرّة

بقلم محمد قلبي

المصدر: الصباح الخميس 28 جانفي 1999.


لا يكاد يمر أسبوع من أسابيع الله المباركة دون ان يزف لنا ساعي البريد ردا مضمون الوصول على هذا المقال "المغرض" او ذاك التحقيق "المغشوش"، يعبر فيه الممضون اسفله عن عظيم استيائهم وعميق استنكارهم لما ورد في منشوراتنا من "أباطيل لا تمت للواقع بصلة"، ومن "أكاذيب من شأنها ان تثير البلبلة في النفوس"... و لا يكاد يمر شهر من اشهر الله المبروكة دون ان تفكر هذه الهيئة او تلك المؤسسة او ذلك المواطن في رفع قضية في الثلب مستعينا علينا لربح قضيته بجلالة قانون الصحافة أدام الله عزته وأبقاه. (*)

وما كل رد من هذه الردود المتهاطلة. كالغيث النافع غير قطرة من غدير صار اليوم عندي أشبه شيء من حيث حجمه و ملوحته و سطحية مستواه بسبخة السيجومي .

لذلك لن أرد في هنا على قطرة بالذات. انما سأرد دفعه واحدة على كل الردود السابقة واللاحقة لان سبختي قد طفحت، فأردت ان أن أشمّرعن ساقي، و ان اخرج من هذا الماء العكر.

أنا لا أعجب في حقيقة الامر من طبيعة هذه الردود، و من ملوحة لهجتها و عنف لغتها، فهذا شيء قد عودنا به الشارع الكبير الذي مازال يتميز بحساسيته المفرطة ورده العنيف لكل ما يشبه النقد من قريب أو بعيد.

انما أعجب كل العجب من التناقض الصارخ بين ما تقوله هذه الردود على منبر صحافتنا و ما يقوله أصحابها في كواليس المجالس الخاصة.

فلكم من مرة جمعتني الصدفة بأناس أساتذة و أطباء و دكاترة و مهندسين و أطر سامية و أدباء و فنانين و هلم علما و طبا و هندسة ودكترة و سموا . وفي كل مرة كنت أسمع ''وسخ وذني'' الاثنتين و وساخ كل آذان الصحافيين، هؤلاء ''القوم الذين يتملقون و يخفون الحقائق و يخافون من ظلهم و يغالطون عباد الله و يكذبون في وجههم، ثم يدعون في الصحافة فلسفة و هم المفلسون

فكان الطبيب في كل مرة يشخص أمراض صحافتنا و يصف لها قائمة من الأدوية أطول من "الجي.بي.1"، و كان المهندس يتقدم لنا في هذه المجالس بمثال هندسي دقيق لترميم دور صحافتنا المتداعية ، و كان الفنان يعزف لنا مقطوعة رائعة على أنغام "أحب عيشة الحرية"، و كان العالم العلامة يعلمنا في كل مرة كيف نقول الحق و لو على نفسه ... و كنا نعود الى مكاتبنا بعد هذه الاحاديث الشقية مشبعين بفيتامينات القول الحق، و نوتات الكلمة الصادقة .

فنحن في موضوع ما و نسعى الى تطويق كل جوانبه و الاخذ بكل اطرافه علنا نقدم صورة الى القارئ أقرب ما تكون الى الواقع. ونحاول أن لا نتدخل بين الأطراف المعينة الا بالحسنى. فلا نقاطع أحدا ولا نقاطع حديث أحد، فاذا قال هذا ان الشمس مشرقة و قال الاخر ان الظلمة حالكة، نقلنا قولهما بكل أمانة ايمانا منا بأن القارئ الذي يعيش هو الاخر الواقع كما يعيشه غيره – سيعدل عقارب الساعة و يحدد موقع الشمس بالضبط حسب موقعه من منطقة النور و منطقة الظلمة و ايمانا منا كذلك بأن الحقيقة الانسانية تشمل النهار و الليل في الان نفسه، وان الظلام في نهاية الامر انما هو الجانب الاخر من النور.

لكن هيهات بين ايماننا وردود فعل المعنيين بتحقيقاتنا و هيهات بين ردودهم على أعمدة الصحافة و بين محاضراتهم القيمة في مجالس الانس. فما ان نخرج قيد أنملة عن منطقة البياض الناصع، حتى تتعالى الأصوات منددة مستنكرة مستاءة معربة عن انزعاجها و امتعاضها و غضبها، بل وهناك من "الأصوات" من بادرت باقتحام مكاتبنا عبر أجسام أصحابها لتهددنا بالويل الويل، ان نثب الى رشدنا، و لم نمسح "النقطة السوداء" التي  نقضت طهارة نظافتهم الناصعة.

و اذ بنا نحن الذين أذعنا لمشيئة الطالبين بصحافة حرة طليقة، مطلوبون و مطالبون "بالردة"، واذ بنا نصبح كشيطان المزدلفة، مرجومين من كل جانب .

فهذا الطبيب يستعوذ منا بالله وبقانون الصحافة لان مريضا قال انه ليس ملاكا، و هذا مهندس يرمينا بحجارة من سجيل لان طبيبا قال ان هندسته مصابة بالزكام ، و هذا محامي يلعننا لان مهندسا قال انه لا يحسن غير الدفاع عن جيبه ، وهذا تاجر... وهذا "شيفور تاكسي" وهذا قهواجي ... وهذا بريكاجي .. وهذا كفتاجي .. وهذا قعباجي

ذاك ما نعجب له:  هذا التناقض الصارخ الذي ينادي "يا أبتاه" بين ما يريده كل الناس و ما يرفضه كل الناس، بين ما يحبه كل الناس و ما يبغضه كل الناس ، بين ما يطالبنا به كل الناس و ما يحجره علينا كل الناس .

كأننا بالأستاذ وبالدكتور وبالمحامي وبرجل الاعمال وببائع الكسكروت و بمربى الدجاج وبخدام الشانطي، حين ينادون عاليا في فوهة اذاننا. نحن معشر الصحافيين. بالاصداع بالحقائق، كل الحقائق، يستثنون ضمنيا حقيقة واحدة هي حقيقتهم.

كأن كل واحد منهم، و كل فئة، و كل جمعية، و كل نقابة، و كل عمادة، و كل سلك يقول لنا بين السطور "اكتبوا ما تشاؤون عن الاخرين.. اما نحن فخاطينا"، نحن أبرياء من ذنوب الاخرين و من أخطائهم و من زلاتهم و من فحشائهم و من صغائرهم و كبائرهم لأننا معصومون من الخطأ، أما هم فما هم الا بشر ... مثلكم. ثم يردفون قائلين بين السطور:  و "حذار. حذار أن تكتبوا عنا ما لا يرضينا. لأننا سنرد عليكم ما بجوفنا، و ان لزم الامر سنرفع بكم قضية بالثلب، عملا بقانون الصحافة أبقاه الله ذخرا للوطن .

انهم – جلساء مجالس الانس – ليذكروني بواقعة طريفة عشتها شخصيا في المرحلة الثانوية من التعليم و بودي ان احكيها للسادة القراء لتكون خاتمة هذا لمقال: 

كان أستاذ الفلسفة زمانها يلقي علينا من حين لأخر أسئلة غريبة، ليمتحن مدى هضمنا لمادة الفلسفة، و كذلك ليروح علينا قليلا كلما طال الدرس و ثقلت أجفاننا، فقال لنا يومها :  "سألقي عليكم سؤالين بسيطين و عليكم ان تجيبوا بسرعة و برفع الايدي ان كنتم موافقين.

و سألنا:

-"ومن يرغب في الرقص مع النساء في المراقص؟" 

فرفعنا أيدينا جميعنا

ثم سألنا: 

-"من يقبل ان ترقص زوجته في المراقص؟"

فلم يرفع احد يده

فصاح أستاذ الفلسفة: 

-"أيها الحمقى.. مع من اذن سترقصون؟"

وأنا أصيح اليوم بدوري متوجها الى كل "الردادين" المستائين المستنكرين.

- "ونحن معشر الصحافيين... مع من سنرقص اذن؟"

 

*لكن من حسن حظ الصحافة هناك قضاء يميز بين الغث والسمين ويعطي لكل ذي حق حقه.

 


 

في نفس الموضوع:

الطاهر الهمامي



 

.

محمد قلبي: رسالة بلا عنوان

الصباح الأحد 11 جوان 2000

قارئي الكريم،

أنصحك بأن لا تضيع وقتك في قراءة هذه الرسالة، فهي ليست موجهة اليك، وانما لقارئ اخر أعلم اليقين أنه لن يقرأها لأنه يبحث عن أشياء أخرى في الصحافة المكتوبة.. لكن هل أستطيع أن أطلب منك خدمة باسم "العشرة" التي تربطني بك منذ سنوات ... هل لك أن تقرأها عليه ان كان بجانبك ولك مني جزيل الشكر. 

قارئهم العزيز.. عليهم،

لقد قطعونا وريشونا، نحن معشر الصحافيين، وقالوا اننا مسؤولون عن تردي مستوى الاعلام في بلادنا. ولقد جلدنا أنفسنا بأنفسنا وندبنا خدود بعضنا البعض وأقام بعضنا صلاة الجنازة على جثمان اعلامنا الطاهر.. من الاعلام، وأقام البعض الاخر صلاة الاستسقاء عسى سماؤنا تمطر أخبارا وتعاليق وتحاليل تروي عطش الناس الى صحافة ... غير مائعة. قطعونا وريشونا و مزقوا الجريدة و كسروا الأقلام، واخذنا بعدهم المشعل لنحرق اوراقنا "الصفراء" من الخوف ...ولكن لا احد، أيها القارئ العزيز عليهم ذكرك بالسوء او بالخير.

كأنك لست طرفا في القضية، كأنك مجرد متفرج على صورة الاعلام المشوهة، كأنك بريء براءة الأطفال مما تشكوه صحافتك من ترد وانحلال.

دعني أوجه اليك اذن سبابة الاتهام لأنك مسؤول وبالدرجة الأولى، نعم بالدرجة الأولى، واتحمل مسؤولية "ثلبك" امام القضاء –عن الداء الذي الم بصحافتنا المكبو... عفوا بل المكتوبة. انت الذي انزلتها الى الحضيض مقابل 350 مليما، ان لم يكن بدون مقابل تماما، وهذه ليست مجرد "استعارة".

طبعا تطالبني بان آتيك بالبرهان او بان اسحب كلمتي قبل ان تفرشخ دماغي كما تفرشخ البطيخة ... رويدك يا هذا ...لا تقترب مني ودع رقبة قميصي خارجة عن الموضوع، كي اتنفس الأوكسجين واعطيك البرهان. 

أجبني بدون مراوغة: أولست انت الذي تتلهف كالأكول الذي عظمت كرشه وصغر عقله على فضائح الناس و جرائمهم و مآسيهم العائلية و اسرارهم المخجلة و افراحهم المتحوّلة الى مسالخ و مذابح و مآتم؟ ما ان يحط بصرك على عنوان يقطر دما ومكتوب بالحبر القاني، حتى تزقزق عصافير امعائك "الدراكولاتية" وتشحذ مناقيرها كالغربان لنهش "مصائب قوم عند قوم موائد"

ثم اذا الذي يبحث عن قراءة "الغيب" في الفناجين و الكويرات الكريستالية واوراق اللعب و في مجرى النجوم و في خطوط الكف؟ ...او ليست انت "القارئ الوفي الذي أعطيت "كفا" لصحافتنا المكتوبة ولعبت و"مشكيت" اوراقها على هواك؟ أولست انت الذي اغرقتها في فنجان "الدقازة" وجعلتها تبحث عن احوالك في ظلمة سماء نجومك ومنجميك لا في نهار دنياك الزاخرة بالأحوال السارة والسيئة؟

وهل "تنجم" الصحافة الهزيلة الضعيفة ان تقاوم نزواتك ورغباتك يا سيدي القارئ في الفناجين، العزيز عليهم؟ 

بل إنك لم تكتف بهذا ...لم تسد رمقك بالدماء المراقة و لم تشبع من ولائم المنجمين...ولكنك "زدت على قدام" او قل "زدت الى اسفل السافلين" ...بحثا عن انباء الجن و المجانين. دنياك مليئة بالأنس وانت لا يطيب لك العيش الا مع الجن، في الطبقة السفلية من الكرة الأرضية فكيف تريد من جريدتك الغراء ان تعصي امرك بالنزول الى حضيضك و ان تخسر بالتالي 350 مليما؟ انها ليست مجنونة لتلوي العصا في يد جنك وجنونك.

 

داء اخر وجرثومة أخرى نقلتها بعطسك على صحافتنا المكتوبة، داء اخر سأقتصر على ذكره أخيرا ولو ان قائمة ادوائك مازالت طويلة:

من الذي ينبش في مقابر الجرائد التي لا تبحث عن القراء و انما عن "المقرية" كي تخرج من قبورها اشباح الاخبار الجيفة ...المخيفة في اوج القيلولة ؟ ...من الذي دس في اعلامنا الجديدة هذه "اللولة"؟ او لست انت الذي هجرت عالم الانباء الحية لتعيش في عالم الأموات الذين عند ربهم يرزقون، والذين بأرواحهم "الخارجة" (من سذاجتك)، صار بعض الصحافيين يرتزقون؟ او تدري أيها القارئ المغمور.. إنك حوّلت هؤلاء الصحافيين الى حفارة قبور؟

وبعد هذا كله تسب الصحافة والصحافيين والناس اجمعين، وتقول ان مستوى الاعلام انحط... وأننا مسؤولون عن ذلك على طول الخط.

ختاما دعني ابوح لك بسر ... الصحف القليلة التي قاومت غيك تحتضر! ...نعم انها بصدد لفظ أنفاسها الأخيرة ...لأنها لا تقبل البقاء على قيد الوجود بهذه التسعيرة...فحتى الاشهار يا أيها القارئ بالحاضر وفي أغلب الأحيان "بالطلوق"، أصبح يفضّل تمويل الجرائد التي تروج في السوق. 

بحيث يا سي القارئ العزيز على "الدقازة" وعلى الجن وعلى الاشباح، انقلبت رسالة الصحافة في عصرك راسا على عقب. جعلت الجريدة للرفع من مستواك في يؤم من الأيام الماضية، فاذا بها اليوم تهبط الى مستواك فتسقط في الهاوية.

محمد قبلي

واحد مجهول الهوية

 

المصدر: محمد قلبي، الصباح الأحد 11 جوان 2000، عمود رسالة الأحد.

 

 

الصباح، الأربعاء 8 ديسمبر 1993


لمحة

محمد قلبي: اغطية

 

سألني واحد في مكالمة هاتفية: "ما الذي تعنونه بالتغطية الصحفية؟"

فقلت له: "المعنى يختلف حسب الجهات والبلدان، فهي مثلا تغطية الأحداث عند الفرنسيس والإنجليز والامريكان"

فقال "وعند العرب هل هي أيضا تغطية الأحداث والأحوال؟"

فقلت كلاّ! ...بل هي تغطية عين الشمس بالغربال"

فسكت مخاطبي برهة كأنما عجز عن الإفصاح...ثم صاح "وأنتهم ماذا تغطّون؟" فأجبته: وجوهنا يا صاح!  ".

 



من آخر كتابات محمد القلبي على صفحات جريدة الشعب قبل انفجار الأزمة بين الحكومة التونسية والاتحاد العام التونسي للشغل في 26 جانفي 1979، مقال الكرنفال أعاد نشره موقع الشعب نيوز بعد 45 سنة. وتميّز محمد قلبي الأسبوعي بعموده القصير جدا الذي كان يصدر تحت عنوان حربوشة التي جمعها وأعاد نشرها في كتاب زميله الصحفي رئيس تحرير جريدة الشعب سابقا، محمد العروسي بن صالح تحت عنوان حربوشة محمد قلبي برعاية من الإتحاد العام التونسي للشغل سنة 2016.