بقلم: آمال مختار
جريدة الصحافة اليومية (تونس) ماي 2011
تعلمت الصحافة كما تعلمت المشي تماما. تعلمتها دون أن أعلم ودون أن أقرّر، هناك في مكان ناء بعيد اسمه لا وعيّ تعلمتها من خلال الكتب والروايات التي قرأتها في طفولتي ومراهقتي حيث كانت ملاذي الآمن الوحيد إلى ما سأعرف بعد ذلك أن اسم ذلك الشيء الممتع والمريح حرّية قطفت من تلك الروايات خلاصة دروس الصحافة الأهم والمتمثلة في الجرأة والسرعة والحرية.
خبأت ما تعلمت سرا ودون قصد في ذاكرة العقل وواصلت مشوار دراستي العلمية دون أن أفكر لحظة أنني قد اشتغل صحفيّة.
غير أن الصدفة أو القدر أخذني ببراءتي وشجاعة الجاهل إلى هذه الصحافة دون أن أعرف أننّي قاتلت وبشدة من أجل ان ألقي بنفسي في حقل ألغام مخادع، منافق لا تنتهي مفاجآته غير السارة حتى لو قررت الانسحاب.
لما انطلقت في مجال العمل الصحفي في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كنت اشتغل في مجال الممنوعات الذي لا يضع حرّية الصحفي على العمل.
رواية آماما مختار، الكرسي الهزاز دار محمد علي للنشر، 2020 |
ثم جاء التغيير المزيف سنة 87 وانا اشتغل في جريدة «بلادي» الشهيرة آنذاك وحدّثت نفسي بأنني استطيع أن أحقق ما حلمت به في هذ الفترة التي تنفس فيها الإعلام بعض هواء الحرية.
فأقدمت دائما «بشجاعة الجاهل بخفايا الامور» اقترح على رئيس تحريري أن أنجز سلسلة من التحقيقات التي لم تنجز من قبل مثل التحقيق حول وضعيات السجون، وكواليس المستشفيات ووضعيات النساء اللاتي اخترن العمل في مهنة البغاء، عموما كان يهمني أو بالاحرى كان يحرضني حدس فضولي في أعماقي لأكشف عن هذه الوضعيات الهامشية اتي تعيش على أطراف المجتمع الذي يبدو سعيدا بوجهه المبتسم ويديه اللتين تصفقان لخطاب التغيير.
لم يكن لدي أي تفكير سياسي وطبعا أي تكوين وأي انتماء كنت ـ ولازلت ـ في اعماقي أرفض أجواء السياسة وكواليسها إذ كانت تبدو لي دائما ملوثة بقذارة غامضة لا أفهمها أو هي في الحقيقة لعبة خطيرة وغير مشوقة.
أذكر ابتسامة رئيس التحرير الممزوجة بين الاستغراب والسخرية وهو يقول لي مواجها حماستي المفرطة:
«إذا ما نجحت في ذلك لم لا».
وتماديت في حماستي مطالبة بمساحة على الصفحة الأولى.
ويا لصدمتى الأولى والكبيرة عندما واجهتني كل الأبواب التي طرقتها موصدة بمراتيج من حديد ولا سبيل لأدنى محاولة من جهات أخرى حتى لو كان ذلك من ثقب الباب.
عندها تذكرت ابتسامة رئيس تحريري بل وواجهتها مرة أخرى وقد اضاف إليها بريق من الثقة.
عندها أدركت أنّ ما كنت أحمله في ذهني المثالي عن الصحافة كان أضغاث أحلام أو هو في الحقيقة صورة مثالية تكوّنت لدي من خلال قراءاتي التي كانت تقدم الصورة المثالية للصحفي الذي يجب أن يكون وليس الصحفي الموجودة بالفعل على أرض الواقع.
خاب أملي لكن حماستي ظلّت ملتهبة فغيرت الاختصاص من التحقيقات التي فشلت في هتك اسرارها رافضة أن أقدم تحقيقات من نوع «غلاء أسعار علوش العيد» أو أسباب اختفاء البطاطا من أسواق الخضار ـ إلى مجال الثقافة معتقدة أنني سأكون أكثر حرية... تهيأ لي ذلك في البداية خاصة عندما عملت في جريدة الصباح من سنة 1990 وحتى 1993 لكن بعد انتقالي إلى جريدة الصحافة الرسمية تغيرت الأمور.
2018رواية أنوات، دار محمد علي للنشر |
بعد تجربتي في الصحافة الخاصة «الصباح» التي تسمح للاسم بالبروز بعض الشيء خاصة في تلك الفترة جئت إلى جريدة الصحافة ليزيد اعتقادي ويكبر سنة بعد أخرى أنه لا وجود لاسماء هنا. هناك صحفية تصدر لتتحدث عن نشاط الرئيس ومن يعملون فيهم عبيد أكثر مما هم صحافيون.
وبدأت اواجه الرقابة ومنع المقالات حتى في اختصاص الثقافة.
تحطمت كل أحلامي الصحفية وتكسّرت حماستي على جدار الفساد السياسي الذي بدأ ينخر المؤسسة الاعلامية وانطفأت شعلة قلمي وانا اواجه الرقيب الداخلي الذي زرعه عبد الوهاب عبد الله في اعماق كل صحفي لم ينخرط في زمرة المزمرين والمداحين.
لم تتقبل أعماقي الريفية الحرة أن يسكن فيها جاسوس ضدي. لم أكن استطيع لأحمل في داخلي إلا أناي وقلمي ومثاليتي «البلهاء» فسقطت في سلسلة من الاكتئابات النفسية والتي مازالت أعاني منها حتى اليوم بعد ان هدرت قرابة العشرين سنة في جريدة «الصحافة» دون ان انجح في أن أكون تلك الصحفية التي حلمت، تلك التي تتحرّك ليلا نهارا وفي كل لحظة وحين لتأتي بالخبر المستحيل والمعلومة المتخفية في بطن السمكة وتسارع الزمن وتسابقه لتكون صحيفتها أول من نشر الغنيمة الصحفية من أجل أن يعرف الناس.
و«أن يعرف الناس» تلك هي الخدمة المطلوبة من الصحفي وخاصة الصحفي في مؤسسة عمومية غير أنني تحوّلت إلى صحفية ـ «بالاسم فقط» ـ محبطة مريضة سلبية تقف في منطقة «رمادية» فلا هي قادرة على التخلي تماما وقد تقدم العمر وبات من الصعب نحت مستقبل جدي ولا هي قادرة على المواجهة والنضال وقد اضحت أما مسؤولة عن ابناء لا ذنب لهم في اختيارات أمهم الخاطئة.
نصحني طبيبي النفسي بأن أتقبل هزيمة الصحفية وأتصالح مع اللون «الرمادي» وأعمل موظفة في مهنة الصحافة أنجز ما يطلب مني دون أن أبرز ذكائي أو مبادرتي أو قدرتي على التميز لان تلك الصفات كانت مرفوضة في قاموس «عميد الإعلام في عهد المخلوع بن علي العبقري عبد الوهاب عبد الله» أما ما كان مرغوبا فيه فهو النفاق والتزلف وتطويع القلم إلى التطبيل والتزمير مع طمس الحقائق وكتم الانفاس وكان جزاء ذلك كبيرا: منحا ومنحا حتى أن بعض هؤلاء تمتعوا بكل المنح المنصوص عليها وأخذوا منحا اخرى احتاروا في تسميتها استسلمت بعد أن تعبت من الركض وراء حقوقي المادية مقابل أعمالي الصحفية المحايدة كالاشراف على الملحق الفني لجريدة «الصحافة» لسنتين ونصف والاشراف على صفحات مثل صفحة كتب ومطابع وصفحة المرأة ثم الملحق الثقافي في عهد المدير عبد الجليل بوقرة الذي استبشرنا به خيرا باعتباره مثقفا لكنه لم يفلت من الدائرة التي تأكل في دورانها النزيه وغير النزيه.
كل من يجلس على ذلك الكرسي يصاب بلوثة السلطة فتنبت له أنياب تنهش كل من يقول أو حتى يهمس «لا» ثم فجأة هرب بن علي وفي لمح البصر انهار نظام كان يبدو لنا ونحن ننظر إليه من الخارج صرحا عاليا لا ينهار.
وفجأة انهالت علينا أو بالاحرى غمرتنا موجات تسونامي من معان كانت غريبة عنا مثل حرّية وديمقراطية واستقلال قضاء وحرية اعلام وأصوات ثورية صادحة «الشعب يريد».
هزّتني المفاجأة وصدمتني حتى توقف قلمي تماما عن الكلام ولما انتبهت من هول الفرحة غير مصدقة وجدت الامر قد عاد ـ تقريبا ـ إلى ما كنا عليه وجدت الادارة العامة التي تصدر عنها جريدة الصحافة «يخبطني شخصيا» على رأسي بقرار ايقاف الصحيفة وايقاف «منحتي» الوحيدة التي اتمتع بها.
ذهلت من جديد وسقطت في «الرمادي» الذي لم أعد احتمله بعد مصالحة دامت لسنوات.
وعاد قلمي يتلعثم وهم يسألونني ماذا أقول عن حرّية الصحافة في اليوم العالمي للاحتفال بحرية الصحافة?
فأقول أنه لا حرّية للصحافة مهما توهمنا ذلك واينما كنا وانما هناك نسبيّة مرتبطة بمدى ثقافة الشعوب سياسيا وأما نحن في تونس فثقافتنا السياسية اعلامنا صفر حتى يأتي ما يخالف ذلك.