بحث

الهاشمي الطرودي: بين النضال الايديولوجي والحرفية الصحفية

كتب الأستاذ رشيد خشانة في بروفايل عن الصحفي الهاشمي الطرودي (12-11-2015):

"برحيل الأستاذ الهاشمي الطرودي لم تفقد تونس واحدا من إعلامييها المُحنكين فحسب، وإنما فقدت أيضا مناضلا من الرعيل الأوّل بعد الاستقلال، تميّز بالسخاء والعفة والمُثابرة. انخرط الهاشمي الشاب، ولمّا يزل طالبا في جامعة الزيتونة، في موجة التمرّد الشبابي التي أعقبت إقرار نظام الحزب الواحد في 1964. ولم يلبث أن انضم مع رفيق دربه محمّد بن جنات إلى مجموعة «آفاق» اليسارية، ليجد نفسه ماثلا أمام محكمة أمن الدولة في أول محاكمة لها سنة 1968 مع كوكبة من الشباب الجامعي، من بينهم نور الدين بن خضر وخميس الشماري ومحمد الشرفي ورشيد بللونة وأحمد السماوي...

المناضل والصحفي الهاشمي الطرودي

يقول الهاشمي عن أحلام واحد من أبناء ذلك الجيل، أحمد بن عثمان الرداوي: «كان الحلم ولا يزال جميلا، كانت المغامرة رائعة، كانت التجربة قاسية، أقول فقط أن الجزاء لم يكن على قدر الجهد والنتائج لم تكن بحجم التضحيات، لكن الأكيد أن ذلك الجيل، واحمد بن عثمان احد رواده، كان له شرف الرّيادة في النضال من اجل الحرية والتقدم، جيل أصرّ في ثبات ومثابرة لافتة أن يقول:لا للاستبداد، لا للقمع، لا للحيف الاقتصادي والاجتماعي».

استعاد الهاشمي حريته في أعقاب أزمة التعاضد بعدما أخلي سبيل المساجين السياسيين بمقتضى عفو رئاسي على دفعتين سنة 1970. لكن ما أن احتل موقعه مُجدّدا في ساحات العمل الديمقراطي حتى عادت طاحونة الاعتقالات والمضايقات تُطاردُه، وانتهى به المطاف في أقبية برج الرومي في 1973، لكن هذه المرّة بغطاء «قانوني» غير مسبوق، إذ تقرّر إلغاء العفو الصادر بحق سبعة من قدماء برج الرومي، هم نور الدين بن خضر وأحمد الرداوي ورشيد بللونة وجلبير نقاش ومحمد صالح فليس وعبد الله الرويسي والهاشمي الطرودي. ومع صدور أحكام جديدة عليه من محكمة أمن الدولة في أوت 1974، عرف أن الطريق مازال طويلا أمامه، فاستثمر الزمن المديد لتعلم الفرنسية، وصار يقرأ بها أعقد كتب الاقتصاد وأمهات الفكر السياسي. انغمس في القراءة وأدمن على المعرفة وكأنه قرّر أن ينحت قامة ذاك الإعلامي العصامي الذي صارهُ إثر مُغادرته الأسوار.

ثم ارتمى في أمواج الحراك الاجتماعي والسياسي في بواكير الثمانينات، لكن لم يُسمح له بمعانقة المحفظة والعودة إلى الفصل الذي طالما أحبَ، فاضطُرّ للتدريس في المعاهد الخاصّة بمقابل زهيد، لكي يُعيل أسرةً كانت رفيقةُ دربه وحبيبة قلبه حوريةُ تُخفف عليه بعضا من أعبائها.

انطلق في الوقت نفسه يُعبّد طريق احترافه للصحافة، فكتب في "الصباح" و"الموقف" و"الحياة" إلى أن انتهى رئيسا للتحرير في "المغرب"، وعندما أغلقَ بن علي هذه الصحيفة الأسبوعية وسَجن مديرَها في أوائل التسعينات، كان هو من جمع حوله فريق التحرير في مؤتمر صحفي ليكشف خلفيات الحجب. كلُ إغلاق لصحيفة أو حتى احتجابها لأسابيع، كان نكبة للعاملين فيها ولأسَرهم. مع ذلك استمر برباطة جأشه الخرافية يُمسك القلمَ وينشرُ هنا وهناك تحاليل عميقة وراقية في القضايا التونسيّة والعربيّة... بلا مقابل في غالب الأحيان ».(…)

رشيد خشانة : الهاشمي الطرودي ... المناضل والإعلامي والناسك


الهاشمي الطرودي، كتاب الأحياء 2013

نشر محمد علي الحامي، 2014


جاء في محاضرة ألقاها الأستاذ أمين بن مسعود في حلقة نقاش نظّمها نظّم المركز الافريقي لتدريب الصحفيين والاتصاليين و دار محمد علي الحامي للنشر في جانفي 2017، حول الصحفي الهاشمي الطرودي وصحافة الرأي:


(…) "في مثل هذه السياقات المعرفية والتاريخية تصبح دراسة مقالات «الرأي» لدى المرحوم الهاشمي الطرودي أمرا ذا أهمية علمية بالغة، لا فقط لأنّ الطرودي مثّل الشذرات القليلة من الصحفيين التونسيين الذين اختاروا مسلكية «التساؤل والمساءلة» في مقالاتهم التحليلية والتعليقية فيما اختارت غالبية الأقلام الدعاية للفاعل الرسميّ أو الهجرة الإعلامية نحو المناطق الآمنة الكامنة في «التقارير الإخبارية الرتيبة» وإنما وهذا هو الأهمّ لأنّ «الشيخ» – كما يحبّذ أهل المهنة تلقيبه- انحاز وعلى مدى أكثر من أربعين عاما لميثاقية المهنة الإعلاميّة التي تفرض على الصحفيّ «إنارة الرأي العامّ والتقييم الهادئ والمتعقّل للأوضاع الراهنة» بعيدا عن الديماغوجيا أو انحيازات الايديولوجيا.

فماهي أبرز ملامح مقالة الرأي لدى الهاشمي الطرودي, وإلى أي مدى ساهمت هذه المقالات في إثراء النقاش العمومي حول القضايا العامة وبالتالي في إرساء اللبنات البكر لبراديغم المجال العمومي والديمقراطي والتعددي , وماهي أبرز مراحل التطوّر والنضج التي طبعت مدونة مقالات الرأي ( في مستويي المعنى والمبنى ) لدى الطرودي؟ والأهم من كل ما سبق كامن في التساؤل حول إمكانيات استحالة «الرأي» من موقف وتوصيف وتشخيص وتقييم إلى مقولات تفسيرية كبرى ذات مقدرة تحليلية معتبرة لشواهد الماضي وسياقات الراهن واستشراف المستقبل؟" (…)

دراسة د.أمين بن مسعود حول تجربة مقال الرأي عند الهاشمي الطرودي



نماذج من كتابات الهاشمي الطرودي التي تجمع بين الانحياز الواضح لما يراه حقيقته ووضوح الرؤية ودقة الحجة والتعامل باعتدال واحترام للخصم الايديولوجي والسياسي.



بمناسبة الذكرى الرابعة للثورة : الاستثناء التونسي الجذور، الحاضر والآفاق... جذور الاستثناء في مقاربات الحركة الإصلاحية التونسية ومنجزاتها
الهاشمي طرودي استثناء تونسي 4 سنوات ثورة


المغرب (يومية، تونس)

جزء 1

السبت 17 جانفي 2015

بقلم: الهاشمي الطرودي


قيل عن الشاعر الكبير أبى الطيب المتنبي «ملأ الدنيا وشغل الناس» هذه هي حال تونس، يوم الإعلان عن نجاحها في اختبار الانتقال الديمقراطي، تهاطلت عليها برقيات التهنئة من كبار زعماء العالم

برقيات تختلف عن مثيلاتها في مثل هذه المناسبات، إنّها ملأى بعبارات الإعجاب والإكبار والامتنان، كما تحدّثت عنها كبريات الصحف العالميّة بعناوين وضّاءة «الاستثناء التونسي»، «النموذج التونسي»، التجربة الديمقراطية التونسيّة». عناوين قاسمها المشترك، أنّ بلادنا تصنع الحدث، تقدّم الإضافة، تخصب مسيرتها التاريخية الزّاخرة بالعطاءات بعطاء آخر أو لنقل، ببساطة، إنّها تعلن عن أهليّة بلادنا للالتحاق بنادي الدول الديمقراطية وتقول: إنّ عصرا جديدا على الأبواب.

بدا بلدنا بقعة مضيئة في عالم دموي، يأكل فيه المسلم لحم أخيه ميّتا، بدا واحة سلام مقارنة بباقي بلدان الربيع العربي، التي بات ينطبق عليها ما قاله الشاعر ميخائيل نعيمة عن مآسي الحرب العالمية الأولى.

أخي لا وطن ولا أهل ولا جــــار إذا عشنا إذا متنا ردانا الخزي والعار
لقد خمّت «نتنت» بنا الدنيـــا كما خمّت بموتانا
فهات الرفش واتبعنــــــــــي لنحفر خندقا آخر نواري فيه أحيانا

لقد شعرت بقشعريرة هزّت كياني وألهبت خيالي وأنا أستمع - قبيل إعلان السيد شفيق صرصار عن نتائج الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة - للنشيد الوطني، أحسست وكأني أسمعه لأول مرّة، لحظة تاريخية امتزجت فيها دموع الفرح بأحزان الثكالى وعبرات اليتامى ومسرّات شهداء الوطن، أولئكمّ الذين قدّموا أرواحهم قربانا لنعيش هذه اللحظة، لنقيم الأفراح ونتذوق طعم هذا النصر، كان نصرنا عطاؤهم وكانت اشراقة تونس من جمال محيّاهم.

ويتيه بي الخيال إلى أزمنة سحيقة فيرسم أمامي، وفي لمح البصر، شريط تاريخ هذا البلد العزيز، الصغير بمساحته وحجم سكانه والكبير بمخزونه الحضاري ومنجزاته، بعطاءاته وإضافاته، بأحزانه ومسرّاته، بانتصاراته وخيباته. يتراءى لنا دستور قرطاج الذي أشاد به المعلم الأول أرسطو طاليس، وتتوالى أمامنا مشاهد تروي قصص الحضارات التي تعاقبت على بلادنا، تستوقفنا، طويلا، بطولات حنبعل وأمجاد يوغرطة ومسارح ومدن العهد الروماني ودفاتر سان أوغسطين. ونحطّ الرحال لاستعراض بطولات وعطاءات هذا البلد في عهود ازدهار الحضارة العربية الإسلاميّة، عطاءات في علوم الدين، في العلوم الصحيحة، في علوم اللغة، في الطبّ، في الصناعات، ، في فنون المعمار، في الصنائع والحرف، في الأدب، في الظرف ومجالس اللهو، في الزهد والتصوّف، في علوم الحرب وشؤون السياسة والحكم،

لائحة طويلة من أسماء الأعلام التي صنعت هذا الموروث الحضاري. وتتسارع الخطى، لنجد أنفسنا في خضم تاريخنا الحديث والمعاصر، في معاشرة فتوحات الحركة الإصلاحية وأحداث الحركة الوطنية ومنجز دولة الاستقلال.

في غمار هذه الرحلة تتضح لنا، شيئا فشيئا، الصورة، ينكشف أمامنا ركام الخبرات التاريخية التي صنعت الشخصيّة القاعديّة للتونسي، ونقف عند انجازات النخب والقوى الاجتماعية وإضافاتها، تلك الإضافات التي ساهمت، أيّما إسهام، في صنع خصوصيات التجربة التونسية وخلقت، في نهاية المطاف، ما بات يعرف بالاستثناء التونسي،

يبدو الاستثناء في انتزاع موقع الريادة في ثورات ما عرف بالربيع العربي، في طبيعة الثورة، في سلاسة الانتقال من منهاج الثورة إلى منهاج الإصلاح، وأخيرا لا آخرا في نجاح عمليّة الانتقال الديمقراطي. لقد نجحت تونس في ما فشل فيه الآخرون. وفي هذا عين الاستثناء، فمن حيثياته تناسلت الأسئلة الكبرى التي نطرحها على أنفسنا ويطرحها الآخرون.

ما هي جذور هذا الاستثناء؟ ما هي مقوّماته، ما هي آفاقه؟

لا يمكن أن نفي في هذه العجالة بإجابات شافية عن هذه الأسئلة الكبرى، غاية ما بوسعنا تسليط شيء من الضوء يكشف أمامنا علامات الطريق التي أوصلتنا إلى هذا الحاضر الوضّاء، ولعلّ ما ينبغي الإشارة إليه، في البدء، هو أن مسيرتنا، منذ الثورة وإلى اليوم، كانت، عموما، أبعد ما يكون عن الشعبويّة والفوضويّة والراديكالية الثورية وفي مأمن، نسبيا، من نعرات التضامنيات التقليديّة، كالقبليّة والعروشية والجهويّة والفئوية، رغم توافر الدواعي لإثارة هذه النعرات والعزف عليها، ورغم المحاولات اليائسة والبائسة لإثارتها من قبل أناس، عديمي المسؤوليّة، خلت قلوبهم من محبّة الوطن وأعمت بصيرتهم الأحقاد وهواجس الثارات.

كانت بلادنا، مسكونة، عموما، بالعقلانيّة والواقعيّة وحسّ التحضّر، والشعور بالمسؤولية والاحساس المرهف بمعاني الوطنيّة، حضرت هذه الخصال، التي تشكّل مواصفات الإنسان العصري، في كل الشدائد التي عاشتها البلاد، في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، فاعادت الأمل وأضاءت الطريق كلما ادلهمت الظلمة وشعر الجميع أنّ البلاد على شفير الهاوية. لقد ساهم هذا الوعي الوطني الحاد، هذا الشعور القويّ بأنّنا أمّة ساهمت في صنع التاريخ ولا تزال قادرة على الفعل فيه، وهذه الخصال التي يتمتّع بها قادة الرأي بالبلاد، في صنع ما أصبح يوصف بالنموذج التونسي.

إنّ معاني الوطنيّة وقيم الإنسان المعاصر، التي شكّلت ماهيّة هذا النموذج وسرّ نجاحه وتفرّده والتي طبعت سياسات وممارسات جلّ النخب السياسيّة ومكوّنات المجتمع المدني لم تسقط علينا من المريخ وإنّما كانت ثمرة الكدّ والعناء والعرق، كانت محصّلة عقود من نضال النخب التونسيّة وتضحيات الشعب التونسي، نجد جذور هذا الرصيد الذي صنع الاستثناء في مسار الحركة الإصلاحية التونسيّة في مسيرة الحركة الوطنية، في الرؤى التي حكمت مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة.


جذوره في مسار الحركة الإصلاحيةتضرب الحركة الإصلاحية التونسية بجذورها في أوساط القرن التاسع عشر، وإن بدت ارهاصاتها منذ عهد المشير حمودة باشا، كانت باكورة منجزاتها ميثاق عهد الآمان، ثم دستور (1861) الذي انتزعت به تونس، ومنذ ذلك الوقت المبكّر، موقع الريادة. لقد كان أوّل دستور في العالم العربي الإسلامي وبغض النظر عن الظرفية التاريخية والملابسات التي حفّت بصدور هذين الوثيقتين، وعلى الرغم من أنّ هذا الدستور لم ير النور فإنّ فضل هذين الوثيقتين أنهما وضعتا تونس على أعتاب العالم الحديث، وزرعتا في هذه التربة المعطاء بذور قيم المواطنة ومفاهيم نظم الحكم المعاصر.

ويتولّى خير الدين الوزارة فتتوالى الإصلاحات وكانت واسطة عقد هذه الإصلاحات، ودون جدل، إنشاء المعهد الصادقي الذي أصبح محضنة لتفريخ النخبة العصريّة، تلك النخبة التي لعبت الدور المحدّد في قيادة حركة التحرّر الوطني ووضع تونس على سكّة الحداثة والتقدّم. ثم صدر كتاب أقوم المسالك، رائعة خير الدين وإنجيل الحركة الإصلاحية التونسية، دون منازع، كان عصارة تأمّل الرجل في عالمين ومقارنة بين أوضاعهما، تأمل قاده، في نهاية المطاف، إلى القناعة بأنه لا صلاح للعالم الإسلامي، بل لا أمل في عدم خروجه من حركة التاريخ إلا باقتباس وسائل التمدّن الأوروبي. كما كان عصارة حوار عميق مع شيوخ مستنيرين من أمثال قبادو، وسالم بوحاجب، ومحمد السنوسي، وبيرم الخامس، شيوخ فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه، ولم يروا حرجا في معالجة وضعيّة العالم الإسلامي من منظور الحداثة الغربية، فتوصلوا بمعيّة خير الدين، ومنذ ذلك الوقت المبكر، إلى أفكار مذهلة، وأراء غير مسبوقة، في مجال الإصلاح الديني.

الفكرة المفتاح، التي لمّح إليها رافع رفاعة الطهطاوي وعالجها خير الدين، كانت، وبكل وضوح، دعوة لإقحام فكرة التقدّم في التشريع الإسلامي، وإحدى المداخل الرئيسية لترسيخ مفاهيم العقلانية والواقعيّة والنسبية في التعاطي مع الشأن الديني، هذه المفاهيم والتقاليد التي أسست، ومنذ تلك الحقبة، للدعوة إلى الفصل بين الديني والسياسي، وولّدت القناعة بضرورة منح الأولويّة للسياسة العقلانية في معالجة الشؤون الدنيويّة.

نجد أنفسنا، حقّا، أمام فتح من فتوحات الحركة الإصلاحية التونسية، أو لنقل أمام مقاربة غير مسبوقة في ترتيب العلاقة بين الأنا والآخر، فما دأبت عليه حركات الإصلاحية الدينية في العالم الإسلامي هو التعاطي مع التمدّن الأوروبي من رؤية دينية، تتمحور على المقارنة بين الإسلام والمسيحية من منظور مثقل بتراث الصراع بينهما، وخاصة بموروث الحروب الصليبية. هذا مصدر كل المطباّت التي وقعت فيها هذه الحركات بدءا بمشروع الأفغاني/عبده وانتهاء بتيار الإسلام السياسي الذي تحمل رايته جماعة الإخوان. الإشكال، إذن، في عدم هضم حقيقة أن

الحضارة الغربية لم تكن نتاج الديانة المسيحية، ما كانت نتاج أنسنة مثلها، كانت، بالأساس، رغم تأصلها في الثقافة اليهوديّة/المسيحية نتاج الفصل بين الديني والسياسي وهذا ما عناه الفيلسوف هيجل من خلال تعريفه للدولة الديمقراطية «فالدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي أبصرت النور، إثر الثورة الفرنسية كانت – بكل بساطة – تحقيقا للمثل الأعلى المسيحي حول الحريّة والمساواة الإنسانيتين دون إبطاء. لم تكن هناك محاولة لتأليه الدولة أو لإعطائها بعدا «ميتافيزيقيا» كان ينقص الليبرالية الأنكلو-ساكسونيّة، إنّما كان ذلك يشكّل اعترافا بواقع أنّ

الإنسان هو الذي ابتكر الآله المسيحي في مكانه، وأنه هو الذي يستطيع إذا إنزال الله على الأرض، لكي يحيا في البرلمانات والقصور الرئاسية وفي بيروقراطيات الدول الحديثة».
يتضّح من هذا أنّ إسقاط الرؤية للعلاقة بين الدين والسياسة في العالم الإسلامي في التعاطي مع الفكر الأوروبي الحديث ونظم التمدّن الأوروبي وهو الذي حال دون استيعاب فكرة التقدّم التي تأسّست عليها الحضارة الغربية وهو السبب العميق الذي جعل هذه الحركات تدور في دائرة مفرغة. كان السؤال الكبير، بعد الصدام مع الغرب كيف أصبح هذا العالم فردوس الكافرين

وجحيم المؤمنين؟ ألسنا خير أمّة أخرجت للناس؟ وكان الجواب بديهيّا وحاضرا: العيب فينا وليس في الإسلام، تأخرنا لأنّنا ابتعدنا عن ديننا، قال الأفغاني وعبده إن الخلاص، إذن، في العودة إلى ينابيع الدين الصافية، إلى كنوز الكتاب والسنة، نتدبرها كما تدبرها الأسلاف، قبل نشوب الفتنة وحدوث الخلاف، بهذا وبهذا وحده نستعيد مجد الإسلام ونستأنف دورنا في ريادة الحضارة الإنسانية، أليس هذا الدور موكولا إلينا؟ أليس ديننا خاتم الأديان ونبينا خاتم النبيين، وسيقول الإخوان بعد بضعة عقود «الإسلام هو الحلّ» هو الذي سينقذ دار الإسلام ودار الحرب من جاهلية القرن العشرين، وستقول السلفية الجهاديّة سنعيد فتح «بلاد الإسلام» ومنها سننطلق لإعلاء كلمة الله في مشارق الأرض ومغاربها.

الفرق، إذن، بين هذه المقاربات ومقاربة خير الدين وصحبه من الشيوخ المستنيرين هو أنّ هذه الأخيرة عكست الآية، فقد دعت إلى الانطلاق من فكرة «التقدّم» - التي تأسست عليها الحداثة الغربية - في عملية التعاطي مع النصّ الديني والتراث الإسلامي، ويعني ذلك، عمليا، الاحتفاظ من الماضي بما لا يحول دون التقدّم ومعاودة النظر في النصّ لتأويله بما ينسجم وحاجات العصر، أو بالأحرى منح الأولويّة للسياسة العقلية على السياسة الشرعيّة وللعقل على النقل وللإسلام ألمقاصدي على التفسير الظاهري والحرفي للنصّ .

حظّ تونس وأحد أسرار ريادتها هو أنّ هذه المقاربة المتميّزة كان لها أثرها العميق، سواء في مجال الإصلاح الديني والتجديد الثقافي ودعوات إصلاح التعليم، أو في المجال الاجتماعي والحياة السياسية، لم تبق مجرّد مقاربة نظريّة بل تحولت إلى نشاط ميداني وأصبحت مناط الجدل الديني والثقافي والسياسي الذي شغل النخبة طيلة الحقبة الاستعمارية، ثم وجدت الطريق إلى التطبيق في حزمة من الإصلاحات الكبرى التي أنجزتها دولة الاستقلال وفي المقدمة الإصلاحات التي أدخلت على تشريعات الأحوال الشخصية.

عندما نتأمّل أعمال روّاد الإصلاح الديني والاجتماعي من أمثال الشيخ عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد نجد الدليل على استلهامهم لهذه المقاربة، التي تدعو لتجديد الفكر الديني وتطوير التشريع الإسلامي بما يلائم روح العصر . الثعالبي دعا في كتابه «روح التحرّر في القرآن» الذي كتبه في مطلع القرن الماضي، إلى تحرير المرأة، ونبذ التعصّب الديني، واحترام كل الحريات الفرديّة منها والجماعية.

دعوة الحداد لتحرير المرأة

الطاهر الحداد عالج هذه المسألة في كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» بمزيد من الدقّة والجرأة، فقد أكّد على تاريخية التشريع الإسلامي وقيامه على مبدأ التدرج وأوضح أنه «يجب أن نعتبر الفرق البين بين ما أتي به الإسلام وجاء من أجله، وهو جوهره ومعناه فيبقى خالدا بخلوده. كعقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق. وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس. وما هو في معنى هذه الأصول، وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشريّة، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضا من أغراضه. فما يضع لها من الأحكام إقرارا لها أو تعديلا فيها باق ما بقيت هي فإذا ذهبت، ذهبت أحكامها معها. وليس في ذهابها جميعا ما يضير الإسلام وذلك كمسائل العبيد والأماء وتعدّد الزوجات ونحوها مما لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام»

كما نبّه إلى خطر التقليد مبينا أن عامة الفقهاء يميلون إلى تدبّر ألفاظ النصوص أكثر من ميلهم إلى معرفة أوجه انطباق تلك النصوص على حاجات العصر، وذلك لجهلهم بالأحوال الاجتماعية التي يجتازها المسلمون لمعرفة أوجه الأفكار الصالحة لحياتهم، هذا الجهل الذي منعهم من الشعور بحاجة المسلم إلى تطوّر الحكم الشرعي بتطور الحياة.

انطلاقا من هذه الرؤية وتطبيقا لهذه المبادئ أسّس دعوته إلى تحرير المرأة وبرهن بناء عليها أن الحال الذي عليه المرأة المسلمة يتناقض مع روح الشريعة ومراميها، نلمس ذلك في معالجته لمسألة الميراث فقد بيّن أن الإسلام دين الحريّة والمساواة، وأنه كما ساغ في الإسلام إبطال الرقّ يسوغ أن تتمّ المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة وقوانينها عندما تتم الاستعدادات لذلك يتطوّر الزمن، ففي القرآن ما يمكنّنا من تقرير المساواة عند توفر أسبابها. وفي إطار هذه الرؤية عالج بقية المسائل كالحقوق المدنية، وحريّة الاختيار وتعدّد الزوجات، والطلاق والحجاب.....

ما نخلص إليه هو أن مجلّة الأحوال الشخصية، وهي إحدى مآثر المشروع الإصلاحي للزعيم الحبيب بورقيبة والتي ساهمت في وضعها ثلة من شيوخ الزيتونة انبنت بدورها، على الاجتهاد في إطار هذه الرؤية وضمن هذه المبادئ التي شكّلت قوام مشروع تجديد الفكر الديني، الذي انطلق من مقاربة خير الدين، وتمّ التنظير له من قبل الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ووجد الطريق إلى التطبيق في إحدى أهم مجالات الإصلاحية الدينية، لقد كانت دعوة الحدّاد لتحرير المرأة إحدى العيّنات الحيّة لتطبيق تلك المبادئ.

ما يعنينا هنا أن العقلانية والواقعيّة والوعي المبكّر بضرورة الانفتاح عن الآخر، التي طبعت مقاربة النخبة التنويرية لتجديد الفكر الديني، هي التي سوّغت نقد الذّات من منظور الحداثة الغربية ورسخت القناعة بأن مدخل المسلمين للحياة المعاصرة لن يتحقق إلا بالتحرّر من الفهم الظاهري للنصّ واستكناه روح الشريعة ومقاصدها في التعاطي معه. .لقد تيسّرت بفضل هذا وذاك، الدعوة للاجتهاد بغاية دمج الأفكار الجديدة في التشريعات الإسلامية. إنّ تراكم هذه الممارسات في تعاطي النخبة الإصلاحية مع المسألة الدينية، وتحوّل قيم الحداثة إلى مكوّن من مكونات الحياة السياسيّة والثقافية، وتواجد ثلّة من علماء الدين المستنيرين، الذين اعتمدوا الفهم ألمقاصدي للتشريع الإسلامي، هي التي هيّأت الأرضية لإقدام حكومة الاستقلال على إصدار «مجلة الأحوال الشخصية».

كان بورقيبة واعيا أن عموم الشعب لن يتقبّل، بسهولة، هذه الإصلاحات، لكنّه فضّل العلاج بالصدمة، لقد راهن على دور التشريع في التسريع بتطوير الواقع، وعلى تعميم تعليم البنت والاختلاط، وتشغيل المرأة، كما راهن على إقناع الرأي العام بأنّ هذه الإصلاحات ليست ضدّ الشرع، كما يدّعي المحافظون بل على العكس من ذلك فهي، تجسّم قيم الحريّة والعدالة التي نادى بها الإسلام وطمستها قوى الجمود والتقليد.

راهن على كل ذلك لتمرير هذه: «الثورة الاجتماعية» التي ساهمت أيّما إسهام، في صنع تونس العصريّة، إذ لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يتجاهل، اليوم، الدور المهم الذي لعبته المرأة في صلب المجتمعين السياسي والمدني ليكون دستور الجمهورية الثانية راعيا للحريّات وضامنا لمبدأ المساواة بين الجنسين، أو أن يتجاهل انحياز جل التونسيات لمشروع «الدولة المدنية الديمقراطية» وإسهامهم في إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي. كان بورقيبة واعيا، أنّ هذه الإصلاحات إن لم تثمر اليوم فستثمر غدا، فقد قال «وبمجرّد أن تسلّمنا الحكم بدأنا في تنفيذ الإصلاح الاجتماعي الذي لا تظهر نتائجه إلاّ بعد عشرات السنين»، وبناء على هذا فإنّ الاستثناء التونسي، هو، في الواقع، نتاج تراكم عدّة استثناءات تضرب بجذورها في مسار الحركة الإصلاحية والحركة الوطنية التونسية، فمجلّة الأحوال الشخصية كانت بدورها استثناء في العالم العربي الإسلامي.

جزء 2

إنّ الرؤى والخصال التي وقفنا على أصولها في مسار بناء الحركة الإصلاحية والتي ساهمت في التأسيس للاستثناء التونسي تبلورت، بوضوح في مسيرة الحركة الوطنية ومنذ النشأة، ولا غرابة في ذلك

فالحركة الوطنية انبثقت من أحشاء الحركة الإصلاحية وتواصلت هذه العلاقة الجدلية منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.

نكتشف جذور هذا الاستثناء وأسرار نجاحه في العقلانية والواقعية وحذق التمييز بين الممكن والمنشود وفكرة تقديم الأهم على المهمّ، وسياسة المراحل، والقراءة الجيّدة لوضع موازين القوى، والمراوحة بين المرونة والتصلّب، والوعي الحاد بضرورة الانفتاح على الآخر دون التنكر للذات، نكتشفها باختصار في جملة المبادئ والقيم والممارسات التي طبعت، عموما، مسيرة الحركة الوطنية، وشكّلت تدريجيا مقوماتها وبلورت أوجه خصوصياتها، إنّها ذات الخصال التي طبعت سياسات جلّ أطراف المشهد السياسي ومكونات المجتمع المدني التي شاركت في الحوار الوطني، وأسهمت، بهذا القدر أو ذاك، في صنع الاستثناء التونسي.

لقد مثلت حركة الشباب التونسي، التي أسّسها علي باش حانبة والتحق بها، بعد ذلك، الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الوعي الجنيني للحركة الوطنية ففي مسارها نقف على جملة تلك الخصال والممارسات، لقد بدأت معتدلة ومغرقة في العقلانية والواقعية، إذ لم يطالب هؤلاء الشباب بأكثر من التزام الدولة الحاميّة بتعهداتها والمتمثلة، بالأساس، في نشر رسالتها التمدينية وتأهيل التونسيين للمشاركة في تسيير شؤون بلدهم، كان هذا جوهر البرنامج الذي عرضه علي باش حانبة في افتتاحيّة العدد الأول من جريدة Le Tunisien لسان الحركة.

لكن رفض السلطة الاستعمارية لهذه الإصلاحات، تحت ضغوط غلاة الاستعمار - الذين اعتبروا أنّ هذا البرنامج هو بداية نهاية الحضور الفرنسي في تونس، ولم يتردّدوا في المطالبة بقمع الحركة والقضاء عليها- كشف زيف الادّعاء بالرسالة التمدينية للدولة الحامية وعرّى عن الطبيعة الحقيقية للمشروع الاستعماري، هذه الخيبة وحالة الانسداد كانت، خلف تجذّر الحركة، لقد كسرت طوق النخبويّة ولم تتردّد في الالتحاق بالتحركات الشعبية التي شهدتها العاصمة، في العقد الأول من القرن الماضي (الاحتجاجات على غزو ولاية طرابلس، أحداث الزلاج، مقاطعة الترامواي) بل سعت لقيادتها وتأطيرها، فكان القمع الشديد الذي أذن بنهاية المرحلة الأولى من مراحل الكفاح الوطني

مظاهر اسهامات الحزب الدستوري في تطور الحياة السياسية

لا يهمنا الحديث في هذا السياق عن ظروف نشأة الحزب وتاريخه والصراعات التي شهدها، ما يهمنا هو محاولة اكتشاف إسهامات هذا الحزب في بناء الأرضية، ومنذ تلك الحقبة لما أصبح يوصف بالنموذج التونسي في الثورة وفي عملية الانتقال الديمقراطي، لأنّ الرؤية الحديثة التي حكمت هذا النموذج وطابعه المتحضر وأساليب انجازه هي، في نهاية المطاف، نتاج تراكم عطاءات الحركة الإصلاحية والحركة الوطنية والذي مثل إنشاء هذا الحزب المنعطف الحاسم في تاريخها، لا يتسنّى أن نفي هذا الموضوع ما يستحق، فغاية ما نطمح إليه، في إطار كهذا، أن نشير إلى أهم مظاهر هذا الإسهام والتي يمكن أن نختزلها في النقاط التالية .

أولا: إنّ هذا الحزب كان حزبا عصريا ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو على غرار الأحزاب الديمقراطية الأوروبية، سواء من حيث الرؤى والمفاهيم والمبادئ التى تأسّس عليها، أو من حيث الأساليب التنظيمية التي اعتمدها ويتمثّل ذلك، بالخصوص، في قيامه على مفهوم المواطنة ونبذه لكل تمييز على أساس اتني، أو ديني، أو طائفي، أو مذهبي، أو فئوي، رغم حملات التشويه التي ما انفك بشنها عليه غلاة الاستعمار، ويعني هذا فيما يعني، أنه حزب مدني يقوم على مبدأ الفصل بين الديني والسياسي ويعتبر مؤسسوه، ومنذ ذلك الوقت المبكر، أنّ العلوية في إدارة الشؤون الدنيويّة للسياسة العقليّة.

لقد ضمّت الاجتماعات التحضيريّة، مسلمين ويهود، ضمت نخبة تنتمي لأصول اجتماعية متعددة، نخبة ذات مشارب فكريّة وثقافية مختلفة وتوجهات سياسية متباينة، بعضها من خريجي الجامعة الزيتونية كالشيخ عبد العزيز الثعالبي ومنصف المستيري..... ، وبعضها من خريجي المعاهد العصرية والجامعات الأوروبية، كحسن القلاتي وأحمد الصافي، وأحمد السقا، لقد اختلف القوم وعدّلوا برامجهم، لكن الاختلاف لم يكن اختلافا حول «الهويّة» بل كان اختلافا حول السياسات، كان اختلافا حول تباين التقديرات للوضع السياسي الوطني والدولي ولوضع موازين القوى، الذي يرجح هذه السياسة عن تلك.

ما نودّ التشديد عليه في هذا الإطار هو أنّ هذا الوضوح الذي ميّز رؤية المؤسسين للعلاقة بين الديني والسياسي ولطبيعة العمل السياسي في بلد، لا تزال فيه الثقافة السائدة تشدّد على الوصل بدل الفصل، ليس بالأمر اليسير، فهذه القضيّة لا تزال إحدى معضلات العالم الإسلامي بل عادت في عصرنا هذا لتتصدّر شواغل النخبة وتصبح محور الحوار بين مكونات المجتمعين السياسي والمدني.

ثانيا: إنّ الوضوح الذي ميّز رؤية المؤسسين، هو أحد عناوين النضج السياسي الذي بلغته النخبة التونسية، وإحدى علامات التطوّر الذي شهدته الحياة السياسية والثقافية، إنه الدليل الساطع على أنّ الحركة الإصلاحية، التي تضرب بجذورها في أواسط القرن التاسع عشر، والتي شهدت ازدهارا لافتا بعد الاستفاقة من صدمة الاستعمار قد أتت أكلها، فأفكار عصر الأنوار وقيم حقوق الإنسان والمواطن التي رفعت رايتها الثورة الفرنسية، والتي عرفتها النخبة التونسية منذ تدبيج عهد الآمان ودستور ،1861 لم تعد فكرا وافدا غريبا بل تحولت مفاهيمها ومفرداتها إلى جزء من الواقع السياسي والثقافي، باتت قاموسا للنخبة التونسيّة وقادة الرأي بهذا البلد.

نلمس ذلك بوضوح في كتاب «تونس الشهيدة»، كما نلمسه في برنامج الحزب وفي أساليب النشاط السياسي والصحفي والثقافي، كان الكتاب تحليلا عميقا، وبمفردات الفكر السياسي الحديث، لنظام الحماية، لقد رسم صورة قاتمة للحالة التي نجمت عن سياساته في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي وطالب، انطلاقا من هذا التشخيص، بإقامة نظام ديمقراطي يقوم على الفصل بين السلط ويؤمّن استقلالية القضاء ويضمن الحريات الفرديّة والعامة .

ثالثا: لم تتبن هذه النخبة، التي تولّت قيادة الحركة الوطنيّة، مبادئ حقوق الإنسان والمواطن وقيم الحريّة والديمقراطية، التي انبثقت منها، لتؤّثث بها برنامجها السياسي بل ركّزت عليها أنشطتها الصحفية والثقافية واجتهدت لتحويلها إلى ثقافة مجتمعيّة، كما أحسنت توظيفها لمحاربة نظام الحماية وكسب تعاطف الأحزاب اليسارية الفرنسية والتأثير على الرأي العام الفرنسي، لقد استخدمت الوفود التي زارت باريس لعرض القضيّة التونسيّة هذا السلاح بذكاء وحذق، وكان لذلك أثره رغم هيجان غلاة الاستعمار وسطوة اليمين الفرنسي.

الحزب الدستوري ومسار التحديث

يقول الطاهر بن عمار رئيس الوفد الدستوري الثاني لدى الحكومة الفرنسية «إنّ اللذين يطلقون عليهم «الشباب التونسي» هم بكل بساطة أولئك الذين أصبحوا بفضل مستواهم التعليمي وانتمائهم الاجتماعي ينطقون باسم الجميع. لقد أصبحت هذه الوضعية قائمة بصفة آلية منذ اليوم الذي استطعنا فيه بفضل فرنسا الاستفادة من دروس أساتذتكم والتردّد على مدارسكم والتشرّب في كلياتكم بمبادئ الحريّة والعدالة، وهي المبادئ التي يجب أن تكون ركيزة المؤسّسات العصرية، وأنّ الفضل كل الفضل يعود إليكم في اكتسابنا لكلّ تلك الصّفات الجوهرية للعقل البشري وللعقل العصري وهي الرّوح النقديّة والحسّ السليم وحبّ النقاش والتعلّق بالتقدّم على كل المستويات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية».ويضيف «لقد فتحتم بصائرنا جيّدا بفضل مناهجكم ودروسكم، لكن بصائرنا اندهشت وتألّمت من جرّاء النّظام الذي فرض علينا باسم فرنسا.»

ما نخلص إليه هو أن هذا الحزب قطع خطوة حاسمة في مسار تحديث الحياة السياسيّة، ووضع لبنة بل لبنات في مسار تشكيل النموذج التونسي وبلورة خصوصيات حركة التحرّر الوطني، لكن لأسباب، يطول شرحها، لم يتمكّن قادة هذا الحزب من الاستجابة لنبض التغيّرات التي يشهدها الواقع والوضع الدولي في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.

من حظ تونس أن كان جيل جديد في الموعد أصغي للنبض وعزم على حمل المشعل، جيل من طينة جديدة، لم ينهل بورقيبة ورفاقه، فحسب، من معين الثقافة الغربية ويفتتنوا بتراث الجمهورية الثالثة بل حذقوا، أيضا، سواء في غمار النضالات الطلابية، أو من خلال متابعة الحياة السياسية الصاخبة، في باريس، أصول العمل السياسي ومناهجه وتعرّفوا على مجريات السياسة الدوليّة وانعكاساتها على البلاد المستعمرة في تلك المرحلة المفصلية التي تمرّ بها أوروبا والعالم.

لم يتردّد هؤلاء الشبان لم يتوانوا، لقد بدوا وكأنهم في عجلة من أمرهم، فانغمسوا في النضال دون مقدّمات، وكانت الفاتحة النضال الصحفي، فبفضله كشفوا سوأة الاستعمار وأبرزوا أنّ سياسة النهب والاستغلال والتفقير بلغت العظم وأنّ سياسة الابتلاع والذوبان وضرب مقومات الذاتية التونسية بلغت الأوج « دفن المتجنسين بالمقابر الإسلامية، انعقاد المؤتمر الأفخرستي، الاحتفاء بخمسينية الحماية» اشتغلت الجماعة على هذين المحورين، وظّفت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كما البعد الديني لكسر تقاليد العمل النخبوي وإقحام الجماهير الشعبية في النضال الوطني.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

هذه الحركيّة شدّت اهتمام قيادة الحزب ففتح مؤسساته لاحتضانهم، لكن سرعان ما دبّ الخلاف بين الطرفين، والذي أفضى، في النهاية، إلى الانشقاق وتأسيس الحزب الدستوري الجديد، هذا الحدث، أذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى في مسار الحركة الوطنية، وبالتالي في مسار بناء النموذج التونسي. فمؤتمر قصر هلال، الذي انبثق عنه، الحزب الدستوري الجديد لم يكن حدثا عاديا، لقد دشّن مرحلة جديدة هي الأكثر خصوبة وعطاء وإضافة في تاريخ الحركة الوطنية، فمن خلال مراحلها تشكّلت، وبأكثر وضوح، مقومات هذه الحركة ومناهجها في الكفاح الوطني كما تحدّدت في أثنائها ،هويّة الحزب، وتبلورت معالم تونس المستقلّة، وبهذا وذاك اتّضحت ملامح النموذج التونسي وأساسات وخصوصيات ما سيوصف، لاحقا، بالاستثناء التونسي والتي يمكن أن نوجزها فيما يلي:

أولا: أن النخبة القياديّة للحزب الدستوري الجديد، التي انبثقت عن هذا المؤتمر، وتحديدا رموزها البارزة كالحبيب بورقيبة ومحمود الماطري والطاهر صفر تنتمي إلى الجيل الثاني من أجيال الحركة الوطنية، وهو جيل تشبّع بالثقافة الفرنسية وتعلّق بقيم الفكر الحداثي إلى حدّ الانبهار والافتتان، لقد اعتمدت طروحات هذا الفكر مرجعيّة فكرية وسياسية ونموذجا مجتمعيا. إنّ الكثير من الباحثين لم يعيروا الاهتمام الكافي لهويّة القيادة الجديدة، والحال أنّ أهميّة المؤتمر تكمن تحديدا في هذه القضيّة، لقد كانت قيادة ما أصبح يوصف بالحزب القديم تركيبة مختلطة من المحافظين والعصريين وكثيرا ما كانت الغلبة في مواقف وسياسات الحزب وأنشطته لتوجهات الاتجاه المحافظ، بفضل هذا المؤتمر آلت قيادة الحركة الوطنية لهذه النخبة العصريّة، بل باتت خالصة لها أو في الطريق إلى ذلك، إذ تنبئ كل الأحداث أن الظروف الموضوعية والذاتية كانت تشغل حينها لتهميش القدامى واستئثار الجدد بقيادة الحركة.

هذه القضيّة بالغة الأهميّة، إذ لا يمكن فهم مناهج هذه النخبة في الفكر والعمل ورؤيتها للعلاقة بين الأنا والآخر دون التوقف عند هذا.الحدث،. إنّ فوز هذه النخبة بالقيادة يعني، فيما يعني، أنّ ضبط توجهات الحركة الوطنية وغائياتها سيتم من الآن فصاعدا انطلاقا من فكر الأنوار وتراث فلاسفة القرن 19 التي حدّدت في خضم صراعاته أمّهات مفاهيم الفكر السياسي الحديث «الأمّة القومية التعاقد، سيادة الشعب، الحريات الفرديّة والعامة، المواطنة والمساواة» والقيادي في الحزب القديم محيي الدين القليبي كان محقّا عندما شدّد على أنّ الخلاف الجوهري بين الحزبين

يتمحور، بالأساس على اختلاف هويّة القيادتين وبالتالي اختلاف مشروعيهما، يقول القليبي «وقع انقسام بين أعضاء الحزب (1934) أساسه الثقافة، فأعضاء الحزب المؤسسون من ذوي الثقافات الإسلامية ومن خريجي جامع الزيتونة وعلى رأسهم الأستاذ الثعالبي يريدون أن ينهضوا بالبلاد نهضة إسلامية وأن يربطوا حركتهم بنهضة الشرق ونضال الشرق المرير في وجه الاستعمار، أما أعضاؤه الجدد من الشباب الذين درسوا في فرنسا وتثقفوا بالثقافة الغربية فهم يرون أن ترتبط عجلة تونس بعجلة الغرب وكان الشباب يفضلون المفاوضة مع الفرنسيين، ولكن رجال الحزب عارضوا في ذلك وقالوا لا مفاوضة قبل الجلاء وأن الحكم للوطنيين وحدهم»، انقسام آخر سيشهده الحزب الدستوري الجديد بسبب الخلاف البورقيبي/اليوسفي، المفارقة هي تشابه الانقسامين فالأمين العام للحزب الدستوري الجديد سينشق، تقريبا، لذات الأسباب وسيستعير نفس التوجهات والسياسات وسيستخدم نفس المفردات.

لكن قادة الحزب الدستوري الجديد لم يكونوا يرون حرجا في تحديد هويتهم وخياراتهم، رغم الحملات الشعواء التي شنّت عليهم إذ يقول بورقيبة في تصريح لصحيفة (لوموند) أدلى به من منفاه بجزيرة جالطة، «إنّ من مصلحة فرنسا أن تقبل التخاطب مع حزب ومع رجال عصريين لائكيين كونتهم بنفسها، يستلهمون آراءهم من عبقريتها ومن ثقافتها ومن المبادئ التي علمتهم إياها. إنّ في استطاعتنا أن نقيم معا أساس التعاون بين دولتين متساويتين بناء عتيدا لا يهدّد أي طابق من طوابقه بالسقوط»

ثانيا: أن هذه النخبة لم تؤسس في قصر هلال حزبا جديدا، بل أفتكّت قيادة الحزب الحرّ الدستوري التونسي وأعلنت أنها القيادة الشرعيّة والوطنية، وأنّ «اللجنة التنفيذّية» لا تمتلك الشرعيّة ولا المشروعيّة التي تؤهلها للاستمرار في قيادة الحركة، إذ لم يكتف المؤتمر بانتخاب قيادة جديدة للحزب بل قرّر حلّ اللجنة التنفيذية ورفت أعضائها من الحزب، هذا القرار يحمل أكثر من دلالة في مقدّمتها أنّ النخبة الجديدة لا تعتبر نفسها منشقّة عن الحزب بقدر ما تعتبر نفسها صاحبة الحزب والوريث الشرعي للحركة الإصلاحية والحركة الوطنيّة، جدارتها أنّها لم تكتف بهذا الإعلان وإنّما سعت ودون إبطاء إلى تجسيده على أرض الواقع، وذلك بتحويل الدستور الجديد إلى حزب جماهيري كبير، يعبّر عن طموحات أوسع الفئات الشعبية، وبإقحام الجماهير الشعبية في الشأن السياسي .

 

جزء 3

المغرب (يومية، تونس)

الثلاثاء 20 جانفي 2015

 بقلم: الهاشمي الطرودي

لم يصنع الشبان العائدون من فرنسا معجزة، جدارتهم في أنهم التقطوا ما يعتمل في داخل المجتمع التونسي من شعور بالظلم والقهر والغبن، وما يختمر في داخله من تناقضات تشير إلى أنّه بات مهيّئا لتحطيم أسوار الخوف

والمشاركة في الكفاح الوطني. إنّ الوعي بهذه اللحظة التاريخية والاستجابة لمتطلباتها كان الخطوة الأولى في طريق النصر والتمكين للنخبة العصرية.

لقد نجحت قيادة الدستور الجديد، بفضل النضال الميداني والصمود في وجه آلة القمع الاستعماري، وفي وقت قياسي، من تحويل الحزب إلى أداة للكفاح الجماهيري وإلى فرض نفسها، وعن جدارة، كمخاطب رئيسي وكفء للسلطات الاستعمارية، هذا هو الانجاز الكبير لمؤتمر قصر هلال، لقد حدّدت هذه القيادة، ومنذ ذلك الوقت المبكّر، ثوابت النموذج التونسي في الكفاح الوطني وبلورت ملامح مشروع النهضة الوطنية والتي تتمثل في الأتي:

الفكرة الوطنية.

يقوم هذا النموذج، وبالأساس، على الفكرة الوطنية، فلقد سعت هذه النخبة، ومنذ توليها مقاليد قيادة الحركة الوطنية،إلى بلورة مفهوم الأمّة التونسيّة، أو فكرة القومية التونسيّة، أو الذاتيّة التونسيّة، والملاحظ أنّ مصطلح الأمّة كان المصطلح الشائع في تلك الحقبة «الأمّة المصرية، الأمّة التونسية، الأمّة الجزائرية» لم يكن يشعر الناس، حينها، بأيّ شعور بالتناقض بين استخدام هذا المصطلح والحديث عن أمّة عربيّة أو إسلاميّة، فالتناقض والتباس المفاهيم سيظهر أن في حقبة لاحقة وتحديدا أثناء ازدهار الفكر القومي الذي ينفي الفكرة الوطنية، ثم أثناء المدّ الإسلامي الذي ينفي بدوره، ولاعتبارات مختلفة، الفكرة الوطنية.

لكن على الرغم من رواج مصطلح الأمّة في أدبيات الجميع فإنّ مفهوم الأمّة لدى التيارات المحافظة، يكتنفه شيء من الغموض والإبهام والخلط وذلك خلافا لمفهومه لدى النخبة العصريّة، فهذه أسّست مشروعها للكفاح الوطني ثمّ مشروعها لبناء دولة الاستقلال على أساس العقيدة الوطنية، فالوطنية تتماهى لديها مع مفاهيم الفكر السياسي الحديث للقومية، والأمّة، والدولة/الأمّة المستخدمة في البلدان المتقدّمة، والتي عرّفها ووضع أصولها النظرية الفلاسفة والكتاب الأوروبيون في القرن التاسع عشر. الفرق هو أنّ النخبة التونسية ترى أنّ تونس ليست أمّة مكتملة وإنما هي أمّة بصدد التكوين، أو بالأحرى مشروع أمّة وترى أنّ الكفاح القومي هو إحدى الأدوات الرئيسيّة للقضاء على أشكال التضامنات التقليدية وإعادة بناء الأمّة بمواصفات العصر، وفي هذا الإطار تتنزّل دعوة بورقيبة المتواصلة لتعزيز الوحدة القومية وحرصه على الحفاظ عليها واعتقاده –وهو الأمر الأهمّ- في الدور المحوري للدولة في بناء الأمّة.

لكن القول بهويّة وطنية تونسية لا يعني تجاهل البعدين العربي والإسلامي فزعماء التيار العصري يقرون أن العروبة والإسلام مكونان أساسيان للهويّة الوطنية التونسية، لكنهم يؤكّدون، في نفس الوقت، وجود أمّة تونسية أو شخصيّة تونسية متميّزة تضرب بجذورها في أقدم العصور وتستمدّ مقوماتها وخصوصياتها من تراكم عطاءات مختلف الحضارات التي تعاقبت على البلاد التونسية.
إنّ العقيدة الوطنية، التي تشكّل عصب مشروع الدستور الجديد، سواء في مرحلة الكفاح الوطني أو في مرحلة بناء الدولة، والتي تنطلق من أن تونس لها شخصيتها المتميّزة، منذ آلاف السنين، تمثل إحدى أهم خصوصيات التجربة التونسية، لقد كانت الأرضية التي أقيم عليها النموذج التونسي وانبنى عليها مصطلح الأمّة التونسية.

يقول بورقيبة في ردّه على الخطاب الذي ألقاه العقيد القذافي بقاعة البلماريوم في العاصمة، يوم 16 ديسمبر 1972»تونس كانت لها شخصيتها منذ آلاف السنين، منذ عهد قرطاج... لقد كانت الحدود موجودة قبل الاستعمار، وانتساب الجزائري إلى الجزائر والتونسي إلى تونس والليبي إلى ليبيا كان معروفا قبل الإسلام وحتى في وقت الفتوحات الإسلامية»، نعتقد أن استنتاجات بورقيبة من هذه القراءة لتاريخ العالم العربي من الأهميّة بمكان، فهو ينطلق من أنّ هذه البلدان، تحولت عبر تجاربها التاريخية، إلى أمم وأن أهاليها يحملون هذه القناعة، يوضح ذلك للقذافي بالقول «نحن متفقون علي الوحدة، لكن الوحدة عمل كبير وعظيم، يستدعي وقتا لتغيير الأدمغة التي كانت، طوال قرون، تنظر لنفسها كأمّة وكشخصية متميّزة»، لم يكتف بورقيبة بتوصيف هذا الواقع التاريخي بل قلب الآية حيث أكّد أن الوحدة العربية ليست مسلمة وإنما هي عمل ينبغي أن ننجزه، إنّ بناءها يستدعي دمج هذه الأمم القائمة في الأمة المنشودة «علينا نحن أن نفسخها (أي الأمم العربيّة) ونحوّلها، شيئا فشيئا، إلى شخصية عربية واحدة تامة وشاملة وإلى وطن واحد وأمة واحدة وأن مثل هذا العمل يتطلب عشرات بل مئات السنين» وحتى بعد العدول عن استخدام هذا المصطلح المثير للجدل، حيث أصبح مجلس الأمّة يسمى مجلس النواب فإنّ المفهوم والخلفيات والأبعاد بقيت حيّة واختزلت في مصطلح الهويّة الوطنية أو فكرة «التونسة»، هذه الفكرة التي باتت عنوان الوطنية لأي فصيل سياسي والتي شكّلت، ولا تزال، أساسا من أساسات ما أصبح يوصف، اليوم، بالاستثناء التونسي.

هذه العقيدة الوطنية، التي انبنى عليها النظام البورقيبي، لم تلق، فحسب، معارضة بل مقاومة من الاتجاه العروبي الإسلامي في تونس بل كانت لها تداعياتها على علاقة تونس بمحيطها العربي والدولي، على حدّ السواء، ففيها تحديدا نكتشف أسباب ما اتّسمت به السياسة الخارجية التونسية من عقلانية وواقعيّة وبرغماتية، من تمسّك بالشرعية الدوليّة، من تقدير دقيق لدور التاريخ والجغرافيا في خيارات هذه السياسة وأخيرا لا آخرا من قراءة دقيقة لوضع موازين القوى، وفيها نكتشف، أيضا، أسباب ما اتسمت به علاقة تونس بمحيطها العربي، وفي كثير من الأحيان، من خلافات وتوترات «االأزمة التي شهدتها العلاقات التونسية/الجزائرية في عهد بن بلّة، الخلاف البورقيبي الناصري، تداعيات خطاب أريحا...، الأزمات المتعاقبة التي شهدتها العلاقات التونسية/الليبية».

بورقيبة والثوابت السياسية

لقد كشفت مجمل هذه الأزمات وأساليب معالجتها حقيقتين مهمتين، الحقيقة الأولى أن السياسة الخارجيّة التونسية حكمتها، بالأساس، المصالح العليا للبلاد ومتطلبات احترام الشرعية الدولية، لقد واجه بورقيبة، بأريحية واقتدار، كل الضغوطات والحملات الدعائيّة التي شنت عليه لحمله علي تغيير ثوابت هذه السياسة (رفض دعوة ناصر لقطع العلاقات مع ألمانيا، أيّد استقلال موريطانيا، أيّد استقلال الكويت.. واصل الدفاع وبكل وثوقيّة عمّا دعا إليه في خطاب أريحا...) والحقيقة الثانية أنّ الدستور الجديد كان مقتنعا تمام الاقتناع بسلامة خياراته وبأن عقيدته الوطنية ليست انحرافا عن ثوابت الأمّة، كما يدعي خصومه، وإنما هي تعبير ملموس عن واقع ملموس.

لا نضيف جديدا إذا قلنا: إنّ التاريخ أنصف بورقيبة، فقد أثبتت الأحداث الماضية والحاضرة أن نجاح الأحزاب، التي قادت حركات التحرّر الوطني، يقاس بمدى قدرتها على بناء دول وطنية حديثة، دول قابلة للاستمرارية والحياة والتطوّر، دول قادرة على الحفاظ على المكاسب وتقديم الإضافة للتكيف مع حاجات العصر. إنّ «الكتلة التاريخية» التي بناها الدستور الجديد كسبت هذا الرهان، كما سبق أن كسبت معركة التحرّر الوطني.

والأهمّ من ذلك أنّ هذه الحقيقة أكّدتها، بوضوح، الثورة التونسية، إنّ التغيير في إطار الاستمرارية والحفاظ على مدنيّة الدولة والالتزام بمقتضيات الدستور في عملية انتقال السلطة واحترام النخبة، على اختلاف مرجعياتها الفكرية وتوجهاتها السياسية، لأحكام الدستور والقانون في عمليّة الانتقال الديمقراطي شواهد على ذلك ودليل على نجاح التونسيين في بناء دولة بمواصفات العصر، اللافت أن بن علي داس الدستور وانقلب على مبادئه ووضعه على مقاسه لكن لم يستطع أن يتخلص منه فبقي غلاّ في عنقه، فكان الملجأ الذي عادت إليه النخبة لضمان التغيير في إطار الدستور ولتوفير شروط انتقال سلس للسلطة.

يتضح لنا في ضوء كلّ هذا الدور المحوري الذي لعبته الدولة الوطنية الحديثة في بناء النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي، والتي هي، في نهاية المطاف، نتاج العقيدة الوطنية التي انبنى عليها مشروع الحركة الوطنية، ومن مكر التاريخ أنّ العديد من الأحزاب والأنظمة التي شنت حملات لتشويه بورقيبة جرّاء خياراته الوطنية وبدعوى معاداته للأمّة العربية والإسلامية قد فشلت، فشلا مزدوجا ومركّبا، لم تفشل، فقط، في الحفاظ على المشاريع الوحدويّة التي اندفعت إلى بنائها دون تبصّر بل فشلت، وهو الأمر الأكثر خطورة، في بناء الدولة الوطنية.

إنّ حالة البلدان التي توصف ببلدان الربيع العربي لدليل ساطع على هذا الفشل، إذ تعزى هذه الحالة المأسويّة التي تعيشها هذه البلدان إمّا لغياب الدولة أصلا كما هو الشأن بالنسبة لليبيا، أو لطابعها المذهبي والعشائري كما هو الحال عموما بالنسبة لسوريا والعراق واليمن، وتعزي، في أفضل الحالات، لعسكرتها كما هو الشأن بالنسبة لمصر، ما يسجّل هو أنّ نخب هذه البلدان، فشلت، باختصار، في بناء دول وطنيّة وفق المواصفات الحديثة للدولة، لقد فشلت فيما نجح فيه بورقيبة.

عندما نشدّد على هذا الجانب فلا يعني ذلك: لا تجاهل الاستراتيجيات الهيمنية للدول الكبرى والدول الإقليميّة في هذه المنطقة الحيويّة والغنية ولا تجاهل الأدوار التي لعبتها هذه الدول ولا تزال لإعاقة نهوض هذه البلدان، فهذه حقائق لا سبيل لجحودها لكن الشيء الأكيد أنّ العوامل الداخليّة كان لها الدور المحدّد في إنتاج هذه الوضعية المأسويّة، فهشاشة هذه الدول وقابليتها للاختراق أو الاستعمار على حد تعبير المفكّر الجزائري مالك ابن نبي يفسّر، وبالأساس بتلك العوامل، فجلّ نخب هذه البلدان فضلا على شعوبها، لا تزال، أسيرة الولاءات التقليديّة، والثقافة التقليديّة، إنّها دول، لا تزال، رغم مظاهر العصرنة على عتبة الدولة الحديثة.

الدفاع عن الذاتية التونسية

كانت معركة الدفاع عن الذاتية التونسية أو الهويّة الوطنية إحدى المعارك الكبرى التي خاضها هؤلاء الشبان، منذ عودتهم إلى أرض الوطن، لقد ركّزوا نضالهم الصحفي وأنشطتهم السياسية على قضيتين أساسيتين، فضح السياسة الاستعمارية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي من جهة، والدفاع عن الهويّة الوطنية من جهة أخرى، قالوا، وبقوّة: نحن أمّة جديرة بالحياة، عصيّة عن الابتلاع والذوبان رغم ما اعتراها من ضعف وهوان.

ولإثبات ذلك استثمروا، بذكاء وحنكة، الأحداث الكبرى التي شهدتها البلاد، في تلك اللحظة التاريخية المفصليّة، لقد منحتهم قضيّة التجنيس وانعقاد المؤتمر الأفخراستي والاحتفاء بخمسينية انتصاب الحماية فرصة تاريخية لا تقدّر بثمن، كانت مدخلهم للتنديد بالسياسة الاستعمارية ولبلورة الهويّة التونسية والدفاع عن المقوّمات الحضارية والثقافية للأمة، لم يتوانوا عن إثارة الشعور الديني وتعبئة الجماهير وتسيير المظاهرات لإدانة الاعتداء على عقيدة الأهالي وسياسات مسخ الذاتية التونسية، وأيضا، لإدانة شيوخ المجلس الشرعي الذين أفتوا بدفن المتجنسين في المقابر الإسلامية. لقد أقام هؤلاء الشبان، ببلائهم في هذه المعركة المصيرية، ومنذ ذلك الوقت المبكّر، أنّهم حماة الدين والمدافعون الحقيقيون عن هويّة الأمّة، وفي المقابل بدا أعضاء المجلس الشرعي كخونة للدين والوطن وصنائع للسلطات الاستعمارية.

لكن هذه النخبة المتشبّعة بفلسفة الأنوار والمؤمنة إيمان المتصوّفة، بأنه لا خلاص لبلدهم إلاّ بالأخذ بأسباب التمدن الأوروبي لم تكن بغافلة عن ضعف الأمّة ولا عن أسباب انحطاطها، لقد كانت واعية، تمام الوعي، أنها ليست أمّة بمواصفات العصر بقدر ما هي مشروع أمّة، وكانت واعية، في الآن نفسه وبنفس القدر، أنه يتعيّن عليها الدفاع عمّا تبقى من مقومات هذه الأمة على علاّتها، الصالح منها وغير الصالح ، ما سيتعين الحفاظ عليه وما سيتعيّن إصلاحه، لأنها مدركة أن الإصلاح أو إعادة بناء الذات، والذي لا مناص منه، لن يتحقق إلا بعد الظفر بالحريّة وهذه لن تتحقق إلا عبر الدفاع عن الهوية الوطنية.

في هذا الإطار يندرج موقف بورقيبة من مسألة الحجاب، لقد عارض الدعوة لرفع الحجاب مؤكّدا على ضرورة الاعتناء بما هو أهم وبما من شأنه أن يعين المجتمع على التطور «في الظرف الذي يتعرض فيه المجتمع للمسخ والذوبان من طرف الاستعمار والسيطرة الأجنبية يعتبر الحجاب من مقومات الذاتية التونسية، تنبغي المحافظة عليه بدل التنكر له والتهكم عليه واعتباره من التقاليد البالية». لكن دعوات بورقيبة إلى الحفاظ على التقاليد والعادات بوصفها من مقومات الشخصية التونسية لا يضاهيها سوى يقينه بحتمية التطوّر عندما تتهيأ الظروف لذلك، فقد أضاف قائلا «إنّ التطور حتمي وألا كان الموت والاضمحلال، والتطور واقع لا محالة، لكن بدون انفصام عن جوهرنا حتى تتحقق سيرة ذاتيتنا الدائبة نحو مستقبلنا في وحدة قائمة عبر الزمن تشعر بها ضمائرنا في كل لحظة وحين».

ما نخلص إليه من هذه العيّنات هو أن العقيدة الوطنية لزعماء الدستور الجديد لا تدافع عن الشخصيّة التونسية أو «الأنا» بوصفه هويّة حضارية وثقافيّة ودينيّة متعالية، معتزّة بالأمجاد ومتجاهلة لأسباب انحطاط الأمّة، «أنا» لا يقرّ بهزيمته ويرشح نفسه بديلا للغرب ونقيضا لثقافته وقيمه الحداثية بل لا يرى حرجا في وصف الحضارة الحديثة «بالجاهلية». زعماء الدستور كانوا من طينة أخرى، كانوا يتحدّثون عن «الأنا» انطلاقا من مرجعية مغايرة وبرؤية نقديّة صارمة يتحدّثون عنه بوصفه هويّة مهددّة بالاضمحلال والتلاشي والخروج من التاريخ. ولتحاشي هذه الفجيعة لا بدّ من استدعاء الماضي والالتجاء للمخزون الثقافي لبعث الحياة في الشخصية التونسية، فذلك هو المدخل للتصدّي للسياسات الاستعمارية، التي تجتهد لطمس هذه الهويّة، وهي المدخل، أيضا، لإثبات أنّ الأمّة التونسية لا تزال أمّة حيّة تمتلك مقومات البقاء وتتوافر على القدرات التي تتيح لها الالتحاق بركب الأمم المتمدنة.

الانحياز إلى الغرب

دأب بورقيبة زعيم الدستور الجديد على القول «إنّنا نريد التحرّر مع فرنسا وليس ضدّ فرنسا» فقد أكّد وفي أكثر من مناسبة، أنه لا غاية لنا «سوى إقناع الفرنسيين المسؤولين بالموافقة على حلّ وسط يرضي الطرفين وهو حل طالما طالبنا بتطبيقه وحل كهذا لا يعني انتصارا على فرنسا وإنما هو انتصار الرشد على الغيّ في فرنسا وانتصار العقل على الاعتبارات البالية التي تبنّاها الاستعمار البغيض»

ورغم تواصل سياسة القمع الاستعماري لم يغيّر الحزب وجهته، فقد رفض بورقيبة سخاء الشيوعيين وواصل الدفاع، وبقوّة، عن انحياز حزبه للعالم الحرّ، كان واعيا أنّ التحوّلات العالمية في أعقاب الحرب الكونية الثانية ستؤدّي إلى تغيّرات في إيديولوجيات وتحالفات حركات التحرّر الوطني، وكان يرصد باهتمام هذه التغيّرات ومع ذلك لم تغادره القناعة بجدوى خياراته، فاستمرّ في المراهنة على العالم الحرّ لمساعدة بلاده على تحقيق استقلالها، فقد أعلن، بوضوح، «أن مصلحة الأمّة العربية لا نجدها إلا في تعاملها مع دول العالم الحرّ تعاونا مطهّرا من كل هيمنة وسيطرة». ولتحقيق هذا الهدف وضع يده في يد حشاد لتدويل القضية التونسية، لقد بذلا جهودا معتبرة لضمان تأييد النقابات الأمريكية والرأي العام الأمريكي والغربي، عموما، للقضية التونسية.

ودعما لهذه الجهود الدبلوماسية ، وضّف بورقيبة، بذكاء ومهارة، أجواء الحرب الباردة لإقناع الساسة الأمريكيين بالأخطار التي تهدّد شمال أفريقيا وجنوب المتوسط إذا لم تضغط الولايات المتحدة على الحكومة الفرنسية للوصول مع الوطنيين إلى حلول وسطى ومعقولة من شأنها إضفاء مصداقية على حركات التحرير التي راهنت على الانحياز للعالم الحرّ، كما واصل سياسة الترغيب والترهيب تجاه السلطات الاستعمارية لإقناعها بأخطار التصلب على المصالح الإستراتيجية لفرنسا في شمال أفريقيا وللتأكيد على أنّ هذه السياسة قد تدفع المنطقة إلى مثل حالة الهند الصينية.

لكن بورقيبة لم يكتف بسياسة الإقناع والتحذير بل أقدم على خطوات عمليّة تثبت انحياز حزبه للغرب فقد صرّح، من منفاه بجزيرة جالطة، لصحيفة لوموند «إنّ الدستور الجديد قد قطع منذ مدّة طويلة علاقته مع الشيوعيين، الذين كانوا والحق يقال، عرضوا علينا الاجتماع في جبهة مشتركة، وقد أطرد الدستور من صفوفه، بدون شفقة، الدكتور سليمان بن سليمان الذي اتخذ موقفا ملتزما مع أنصار السلم»، وفي نفس الإطار تتنزّل الجهود التي بذلها الدستور الجديد لدعم أنصار انسحاب الاتحاد العام التونسي من الجامعة النقابية العالميّة (FSM) والانخراط في الجامعة العالمية للنقابات الحرّة (CISL) .

لقد مثلت هذه الثوابت والمتمثلة في العقيدة الوطنية والذاتية التونسية، والانحياز للغرب مقومات النموذج التونسي، والأرضية التي أنبتت الاستثناء التونسي.

 
جزء 4

الأربعاء 21 جانفي 2015

  بقلم: الهاشمي الطرودي


ناضل الدستور الجديد، باستمرار، ومنذ افتكاكه لقيادة الحركة الوطنية بمؤتمر قصر هلال، للحفاظ على نزعته الوطنية العصرية والبرهنة على سلامة خياراته السياسية، وإثبات أهليته لقيادة الحركة الوطنية

كان هاجس بورقيبة استئثار حزبه بقيادة الحركة الوطنية كمقدمة لاستئثاره مستقبلا بإدارة شؤون الدولة المستقلّة، وذلك لاعتقاده أنه لا سبيل لإنجاز مشروعه الإصلاحي الطموح إلا بحكم مركزي ودولة قويّة، وفي هذا تحديدا تكمن أسباب الانحرافات التي قادت إلى الحكم الفردي، وشرّعت نظام الحزب الواحد، لكن هذا الانحراف لا يبرّر طمس جهود القوى الوطنية والديمقراطية، التي واصلت النضال من داخل الحزب، وبعد الانشقاق عنه، من أجل الديمقراطية لقد كان لها دور محدّد في إعادة الاعتبار للفكر الديمقراطي والذي شكّل قوام الحركتين الإصلاحية والوطنية.

في إطار هذه الإستراتيجية تكمن الأسباب العميقة التي حملت بورقيبة على إحباط مسعى الثعالبي لتوحيد الحزب، كان هاجس الاستئثار بزعامة الحركة الوطنية حاضرا في وجدانه والمشروع المستقبلي للنهضة الوطنية جاهزا في ذهنه، ومنذ ذلك الوقت المبكّر، لقد رفض، في الواقع، أن يسلّم قيادة الحزب مجدّدا للشيخ، ويفرّط في هذا المكسب الذي حققه حزبه بجسيم التضحيات، كما رفض أي مساس بعقيدته الوطنية، فهو يقرّ أنّ الهويّة الوطنية التونسية لها بعد عربي وبعد إسلامي، لكنه يرفض أن تتماهى لا مع فكرة القومية العربية ولا مع المرجعية الدينية، كان متيقنا أنه لا سبيل للتوافق مع الثعالبي، وإذا حصل توافق فلا سبيل لتواصله فلكل طرف مرجعيته، فالدستور الجديد يستند في تحديده للهويّة الوطنية على المفاهيم الحديثة، «حول الأمّة، والقومية، والوطن، والدولة الوطنية»، وهي مفاهيم لا صلة لها بالمفاهيم التقليدية حول الهويّة والأمّة، والنهضة الإسلامية التي يستند إليها الاتجاه العروبي الإسلامي الذي ينحاز إليه الحزب القديم.

ما أشبه اليوم بالبارحة

من المهم الإشارة إلى أنّ هناك قواسم مشتركة بين الحزبين، فالحزب القديم، هو بدوره، حزب عصري ذو توجهات علمانية، يؤمن بالقيم الديمقراطية ويتبنّى مفاهيم الفكر السياسي الحديث، لكن من المهم، أيضا، توضيح هذا الخلاف المتعلّق بمفهوم الهويّة الوطنية وفكرة الأمة وبالعلاقة بين الهوية التونسية أو «التونسة» والتوجه العروبي الإسلامي، لأن هذا الخلاف حول المرجعية سيبقى علامة فارقة في كل محطّات مرحلة الكفاح الوطني وأثناء مرحلة بناء دولة الاستقلال.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فالخلاف الذي يشقّ النخبة، اليوم، يضرب بجذوره في الخلافات التي كانت تشقّ النخبة، منذ تلك الحقبة، إنّ الحديث عن «تونسة النهضة» يتنزّل في هذا الإطار، كما أنّ ذات العوامل تفسّر الخلفية الحقيقية للخلاف البورقيبي/اليوسفي، فما أزعج بورقيبة وضاعف خشيته هو الخلفية الإيديولوجية لهذا الخلاف الذي مزّق الحزب الدستوري والشعب التونسي على حدّ السواء، هذا علاوة على دقّة الظرف الإقليمي والدولي الذي اندلع أثناءه الخلاف.

تنفّس بورقيبة الصعداء عندما نجحت المفاوضات، وتمّ إبرام اتفاقيات الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1955/ كان بورقيبة يبحث حينها عن أي شيء، ليثبت جدوى خطته الاستراتيجية وسلامة خياراته السياسية ومصداقية رهاناته، كان المهم بالنسبة له هو التوصّل إلى اتفاق مهما كان الثمن وبغضّ النظر عن حجم التنازلات، لأن ذلك هو المدخل الذي سيمكنه من إقناع الشعب بأن الاتفاقيات خطوة حاسمة في الطريق إلى الاستقلال، ولإقناع الثوار، وهو الأمر الأهم في تقديره، بتسليم أسلحتهم. لقد كان واعيا بخطورة تواصل الكفاح المسلّح وتطوره وهو تخوّف طبيعي لأنّ ذلك سيؤدّي، في نهاية المطاف، وكما أثبتت لاحقا عديد التجارب إلى تغيّر موازين القوى لصالح العسكريين، وبالتالي إلى تغيير الهويّة المدنية لقيادة الحركة الوطنية وما قد يترتّب عن ذلك من تغيير خياراتها الإيديولوجية والسياسية وتحالفاتها الإقليمية والدولية.

نجح بورقيبة في خطته واعتقد أن الطريق باتت سالكة لمواصلة المشوار، لكن سرعان ما اندلع الخلاف ليقلب الموازين ويقحم البلاد في مطبّ جديد، فالخلاف لم يكن خلافا عرضيا ولا مجرّد نزاع على السلطة بينه وبين صالح بن يوسف الأمين العام للحركة، كما يذهب «البعض» لأنه لا يستهدف، في الواقع، زعامة بورقيبة للحركة الوطنية بقدر ما يستهدف عقيدة الدستور الجديد وخياراته السياسية ومشروعه الثقافي ومنهاج كفاحه السياسي، قال بورقيبة «الاتفاقيات خطوة إلى الأمام» وردّ الأمين العام من أعلى محراب الجامع المعمور مخاطبا أنصاره «أحييكم من هذا المحراب التاريخي تحية الإسلام الخالدة، تحيّة قد حمّلني إياها إخوانكم العرب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، من مصر، إلى ليبيا، إلى الشام، إلى بغداد، إلى أفغانستان إلى

باندونج، إلى يثرب مدينة الرسول الأعظم عليه ألف صلاة وسلام، إنّ أولئك العرب والمسلمين يهيبون بكم أن تكافحوا لتحرير هذه الأرض التونسية تحريرا كاملا شاملا ويتحرّر المغرب العربي كلّه، وحتى تبقى أرض المغرب أرضا عربية مسلمة لا يدنسها الاستعمار، ويهيبون بكم أن تقفوا صفا واحدا متراصا لتحطيم هذه الاتفاقيات التي اعترفت للاستعمار بما لم تعترف به معاهدة «باردو» سنة 1881). اعتبر بورقيبة أن رفيقه في الكفاح تنكّر بتبنيه الاتجاه العروبي الإسلامي، لعقيدة الدستور الجديد وثوابته وأنه يسعى لهدم ما بناه هذا الحزب طيلة ربع قرن.
لقد انتصر، بورقيبة، رغم الجراحات والعذابات التي نجمت عن هذا الصراع الأهلي، ورغم أنّ الظرف الإقليمي والدولي كان يشتغل لصالح الحركة اليوسفية. ثم جاء تحقيق الاستقلال بعد بضعة أشهر ليضع حدّا لهذا الخلاف وليؤذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى.

ما نودّ التشديد عليه، في هذا السياق، هو أنّ العقيدة الوطنية، التي انبنى عليها مشروع الدستور الجديد وخياراته السياسية وتحالفاته الدولية، كانت خلف المكاسب الكبرى التي حققتها دولة الاستقلال. لقد حصّنتها من حكم العسكر، ومن التموقع في الإيديولوجيات القومية والإسلامية والتجارب الاشتراكية الراديكالية التي انتهجتها بعض بلدان العالم الثالث، والتي أدّت جميعها إلى ما سمعنا وما نرى، كما ساعدتها على إحراز نجاحات مهمّة في المجال الاقتصادي والاجتماعي إذ اجتهدت الدولة لتستعيض عن شحّ الموارد الطبيعية بالعلم والعمل. ونتيجة لكل ذلك استمرّ نفوذ الفكر الحداثي في التجربة التونسية وتواصل تأثيره في اتجاه تطوير المجتمع.، رغم كل المصاعب والإشكاليات

واللافت أن هذه الخيارات التي صنّف بسببها النظام البورقيبي ضمن الأنظمة الرجعية واتهم على أساسها أيام المدّ القومي وازدهار الفكر اليساري، بالعمالة وموالاة الاستعمار والامبريالية هي التي أرست مقومات النموذج الحداثي التونسي وزرعت البذور التي ساهمت، في نهاية المطاف، وإلى حدّ كبير، في إنتاج ما بات يوصف بالاستثناء التونسي. ثم جاء تيار الإسلام السياسي ليضيف إلى تلك التهم، تهم الانبتات والتغريب ومعاداة الإسلام ويعد القوم، باستعادة تونس «المخطوفة» ثمّ يشرّع، بعد فوزه بالحكم وعلى التوّ، في ضرب مقومات النموذج التونسي كان شعاره غير المعلن «أسلمة المجتمع وأخونة الدولة» لكن استعصى عليه الأمر، وعاوده ، في نهاية المطاف، الرشد، فباتت قيادته تقرّ بأفضال بورقيبة، وبأهميّة منجزات الدولة الوطنية ، البعض يقرّ بطرف اللسان والبعض عن قناعة، المهم هو أنّ الإسلام السياسي أيقن بألاّ سبيل لأن تدخل تونس في عباءته وأنه لا خيار له سوى الدخول في عباءتها.

الاستثناء التونسي وجذوره التاريخية

ما يستنتج من خلال هذه المقاربة أنّ ما يوصف بالاستثناء التونسي ليس نتاج الثورة، لم يبتدعه، أيضا، الحوار الوطني، على العكس من ذلك فالثورة ذاتها وبمواصفاتها تلك هي نتاج هذا الاستثناء وكذلك الشأن بالنسبة للحوار الوطني.، كما لم يكن ثمرة «تنازلات» حركة النهضة. للحركة فضل طبعا، لكن ليس في إنتاج هذا النموذج كما تسعى لإيهامنا بذلك، فضلها، تحديدا، هو التحاقها بالحوار الوطني وإسهامها في إنجاحه، أو بالأحرى فضلها هو إدراك عقلائها وعلى حدّ تعبير هيجل أنّ «الحريّة هي الوعي بالضرورة».

الاستثناء التونسي، وكما أوضحنا، يضرب بجذوره في إضافات الحركة الإصلاحية التونسية، وخصوصيات الحركة الوطنية، والطبيعة الوطنية للحركة النقابية وأخيرا لا آخرا في منجزات دولة الاستقلال. تظافرت هذه العطاءات جميعا لإرساء أساسات المجتمع التونسي الحديث وإقامة دولة عصرية، وبفضل هذه وذاك كانت بلادنا استثناء في الفضاء العربي الإسلامي، كانت ثورتنا مختلفة عن الأخريات وفي هذا الاختلاف يكمن سرّ نجاح عمليّة الانتقال الديمقراطي، لقد نجحنا فيما أخفق فيه الآخرون.

كان بالإمكان اختزال الطريق وتحقيق نتائج أفضل، لكن تمسّك بورقيبة بالسلطة وإصراره خاصّة على أنّ الديمقراطية مشروع مؤجّل، رغم توفّر الدواعي للشروع في بنائه منذ سبعينات القرن الماضي، فوّت على تونس فرصة تاريخية لا تقدّر بثمن. لقد هيّأها لغزوة ابن علي ففعل ما فعل.

لكن ما يشفع لبورقيبة هو أن منجزات مشروع دولة الاستقلال، التي قطعت شوطا مهما في اتجاه إعادة بناء المجتمع التونسي وفق مواصفات العصر، والتي نجحت ، وإلى حدّ كبير، في إقامة دولة عصريّة، وفّرت للشعب التونسي وقواه الحيّة- وعلى الرغم من عاهات الحكم الفردي- الحدّ الأدني من مقومات الصمود والممانعة بل المقاومة، كما رسخّت الروح الوطنية في مؤسسات الدولة الوطنية فساعدتها بذلك على الاستمرارية، وعلى وضع مصلحة البلاد، عندما يجدّ الجدّ، فوق كل اعتبار. ومن نافل القول أنه ما كان للثورة التونسية أن تنجح لو لا الجهود التي بذلتها دولة الاستقلال في تحرير الشعب التونسي من ثقافة عصور الانحطاط وإدماجه في الحياة المعاصرة ولو لا الطبيعة الوطنية للدولة.

ما يحسب للنخبة الوطنية، من جهة أخرى، أو بالأحرى ما يشفع للدستور الجديد هو أن هذا الحزب، لم يفقد نبض الحياة، لم يتخلّ عن المشروع الليبرالي الذي حمله منذ النشأة، لقد واصل الجناح الليبرالي والجناح النقابي من داخل الحزب الدفاع عن الفكرة الديمقراطية ودولة القانون واستقلالية الحركة النقابية، رغم استشراء ظاهرة الحكم الفردي، ورغم النظام الشمولي الذي فرضه بورقيبة منذ مؤتمر المصير «أكتوبر 1964)، كان زعماء الحركة النقابية وهم، أيضا، دستوريون، في الموعد لقد رفض أحمد التليلي والحبيب عاشور تدجين الحركة النقابية وتصدّيا لنظام الحكم الفردي.

ومن المنفى كتب التليلي رسالته الشهيرة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة، كانت صرخة مدويّة، لم تكشف هذه الرسالة، فقط، أخطار نظام الحكم الفردي على مستقبل البلاد بل دعت، بكل وضوح، إلى إعادة الاعتبار لمبادئ الحزب والشروع في بناء الديمقراطية، وبعد أزمة التعاضد استعاد الجناح الليبرالي بزعامة أحمد المستيري المبادرة وهيمن على مقدّرات الحزب وسعى إلى دمقرطته كخطوة لتطوير الحياة السياسيّة، لكن بورقيبة تراجع بعد امتصاص الأزمة عن تعهداته، ألغى قرارات مؤتمر المنستير الأول ورفت زعماء الجناح الليبرالي ثم جاء مؤتمر المنستير الثاني، ليصادق على بدعة الخلافة مدى الحياة ويسجّل العودة البائسة للبورقيبية.

لكن الجناح الليبرالي لم يتخلّ عن مشروعه، لقد واصل النضال من أجل الديمقراطية، فأسّس المجلس الأعلى للحريات، وساهم، ومن موقع ريادي في تأسيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وأصدر جريدة الرأي، التي بذلت جهدا رائعا في الدفاع عن الحريات ونشر الثقافة الديمقراطية، وتوّج هذا الجناح جهوده بتأسيس «حركة الديمقراطيين الاشتراكيين» (MDS)، التي لعبت دورا محدّدا في التمكين للفكرة الديمقراطية في البيئة السياسية والثقافية التونسية. يكفي أن نشير إلى أنها ساهمت في دفع الإسلاميين إلى تبني الخيار الديمقراطي وسعت إلى إقحامهم في المنتظم السياسي القانوني، كما أرست مع الحزب الشيوعي والاتجاه الإسلامي وحزب الوحدة الشعبية تقاليد العمل المشترك، هذا علاوة على وقوفها مع الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء محنة 26 جانفي 1978..

واللاّفت أنّ الحزب الدستوري لم يفقد حيويته، رغم انتكاسة مؤتمر المنستير الثاني، فقد انقسمت قيادته مجدّدا إلى جناحين، جناح متصلّب معاد لاستقلالية الحركة النقابية ولأيّ انفتاح ديمقراطي، يتزعمه عبد الله فرحات وزير الدفاع ومحمد الصياح مدير الحزب ويحظى بدعم نويرة، وجناح ليبرالي يتزعمه الطاهر بالخوجة، وزير الداخلية، آنذاك، رفض هذا الجناح قمع الحركة النقابية وانحاز لدمقرطة الحياة السياسية وتوالت الأحداث فأقيل الطاهر بالخوجة واستقال أنصاره، وكان الخميس الأسود، الذي أذن ببداية نهاية عهد نويرة.
ومع ذلك لم تنقطع مساعي دمقرطة الحياة السياسية، لقد تواصلت في عهد مزالي، لكن لا الأزمة الاقتصادية ولا حرب الخلافة ولا انعدام الخبرة السياسية للوزير الأول وللفريق الملتف حوله

كانت لتسمح بتواصل الانفراج السياسي الذي شهدته بداية هذا العهد فكانت تلك النهاية المأسوية للعهد البورقيبي وكان بعد ذلك ما كان.
ما نودّ إبرازه من خلال هذا الاستطراد الضروري هو أن الدستور الجديد «الأصل والمشتقات» والاتحاد العام التونسي للشغل واللذان شكّلا جناحي «الكتلة التاريخية» التي قادت حركة

«التحرّر الوطني» قد حافظا على حيويتهما، وأبديا في المحطات الكبرى واللحظات الحاسمة في تاريخ العهد البورقيبي إرادة لافتة لمحاولة تصحيح الوضع، وللحفاظ بمعيّة قوى المعارضة الديمقراطية والتقدميّة على ماهيّة «المشروع الوطني» بأبعاده الحداثية والتقدميّة، بدا ذلك في أواسط الستينيات، وبعد أزمة التعاضد، وخلال النضالات السياسية والحقوقية والنقابية التي شهدتها البلاد في عقدي السبعينات والثمانينات.

النخب السياسية والقوى النقابية ودورها في التصدي للحزب الواحد
أذنت أحداث 26 جانفي بنهاية الكتلة التاريخية التي حكمت البلاد، منذ الاستقلال، لكن لم تنته فكرة «الكتلة التاريخية» ولم ينته الشعور بأن أوضاع البلاد تشهد لاستمرارها فقد تواصلت المحاولة لإعادة بنائها في الثمانينيات بين الاتحاد والمعارضة الديمقراطية، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الحوار الوطني الذي أفضى إلى حلّ الأزمة التي شهدتها البلاد، في ظلّ حكم الترويكا، ورسم معالم الطريق لتكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة كان بدوره مشروعا لإحياء هذه «الكتلة» أو بروفة منها، لقد كان نتاج الوعي بأنّ نجاح هذه الديمقراطية الناشئة هو، أيضا، رهن التوافق وتعزيز الوحدة الوطنية.

ما نخلص إليه أنّ صنوف القمع والاضطهاد التي مارسها الحزب الواحد، لم تنجح في اطفاء جذوة هذه الثقافة، لم تنجح في كبت أصوات المعارضة الديمقراطية والتقدميّة ولا في كبح جماح الحركة النقابية، لقد استمرّت هذه القوى، سواء منها من كانت في المعارضة أصلا، كالتيارين اليساري والقومي أو المنبثقة عن الحزب الدستوري كحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحركة الوحدة الشعبية، علاوة على الحركة النقابية – في النضال من أجل دمقرطة الحياة السياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لقد نجحت هذه النخب السياسية والقوى النقابية، وإلى حدّ ما، في التصدّي لنظام الحزب الواحد وإعادة الاعتبار لقيم الحريّة والعدالة الاجتماعية التي رسختها الحركتان الإصلاحية والوطنية في البيئة التونسية. بحيث يمكن القول أنّ العهد البورقيبي كان في مجمله تاريخ التحالف والصراع بين الحزب الدستوري والمركزية النقابية، كما كان تاريخ الصراع بينه وبين القوى اليسارية والمعارضة الديمقراطية .

هذه الحركيّة التي شهدتها الحياة السياسية طيلة العهد البورقيبي تحمل أكثر من دلالة فهي تدل من جهة على حيويّة النظام البورقيبي وقابليته للتأقلم مع المتغيّرات ورسوخ، اختيار أخفّ الضررين في مسيرته السياسية وهذا ما يفسّر قبوله بالتعدّدية، في آخر المطاف، وسرّ ذلك أن بورقيبة لم يكن بوسعه بحكم تاريخه النضالي ومستواه الثقافي أن يتجاوز في إدارته لشؤون الدولة عتبات نظام «المستبد العادل» ويصبح طاغية يتجاهل الواقع ولا يبالي بردود الفعل، وكذلك الشأن بالنسبة لبعض الأجنحة داخل الحزب الدستوري فقد بقيت، وإلى حدّ ما، وفيّة للسياسة الليبرالية على الرغم من نرجسية بورقيبة وإصراره على رفض أي مسعى لدمقرطة الحياة السياسية.

تدل هذه الحركية من جهة ثانية على أن هيمنة هذه الثقافة السياسية، المتّسمة بالوسطية والاعتدال، على المشهد السياسي لم تبق حكرا على الأحزاب الوسطية بل طالت، في نهاية المطاف، اليسار الراديكالي، فقد طلقت بعض مكوناته الرومانسية الثورية وانخرطت في النضالات الحقوقية والنقابية والسياسية والصحفية والتي شهدت نموّا ملحوظا في العقد الأخير من الحقبة البورقيبية، وفي ذات الإطار تندرج مساعي حركة الاتجاه الإسلامي للتأقلم مع الخيار الديمقراطي والالتحاق بالمنتظم السياسي القانوني.

تدل هذه الحركية من جهة ثالثة على أن هذه الروح الوطنية والثقافة العصرية والفكر السياسي والاجتماعي الحديث الذي غرسته الحركة الوطنية ورسّخته منجزات دولة الاستقلال وكرّسته هيآت المجتمع المدني والتي ستثمر، في نهاية المطاف، ما سمي بالاستثناء التونسي، هذه الثقافة لم تبق حكرا على النخبة السياسية وقوى المجتمع المدني بل تغلغلت في أعماق المجتمع، أصبحت، أيضا، ثقافة هذا الشباب، غير المتسيّس الذي أنجبته المدرسة الجمهورية والذي لعب الدور المحدّد في صنع الثورة، كما أثمرت شعبا، يوصف، رغم كل النواقص بالذكاء والنضج.

حيوية المجتمع التونسي والمرحلة الصعبة بعد الثورة
ولا جدال أنّ هذا الرصيد الذي وقفنا عند بعض تجلياته هو الذي يفسّر قدرات المجتمعين السياسي والمدني على الصمود في وجه طغيان بن على وسياساته الآثمة لاغتيال الحياة السياسية وتدجين المجتمع المدني، كمقدّمة للهيمنة على مقدّرات الدولة ونهب ثروات البلاد.

لكن الدليل الأكثر سطوعا، من كل هذا، على حيويّة المجتمع التونسي، الذي أعادت بناءه دولة الاستقلال ونضالات المجتمعين المدني والسياسي هو طبيعة الثورة التونسية ذاتها، إنها ثورة ديمقراطية/اجتماعية بأتمّ معني الكلمة، لقد جاء شعارها المركزي «شغل، حريّة، كرامة وطنية» ليبرهن على تأصّل الهويّة الوطنية وعراقة قيمتي الحريّة والعدالة الاجتماعية في البيئة السياسية والثقافية التونسية، وجاء أسلوبها المتحضّر ونهجها في المحافظة على الشرعية الدستورية في انتقال السلطة، ليشهد على رسوخ النهج العقلاني والواقعي في الأداء السياسي للنخبة التونسية.

إنّ مسيرة البلاد، في أعقاب الثورة تؤكّد كل هذا، لقد تحولت البلاد، فعلا إلى ورشة لاختبار هذا النموذج، ومرّة أخرى جرّب،فصحّ، إذ برهنت الطبقة السياسية والمجتمع المدني وعموم الشعب على تمسّكهم بالوحدة الوطنية وكان الجميع على قدر عال من النضج والحكمة وبعد النّظر فأوصلوا البلاد إلى برّ الأمان، لقد توجت هذه المرحلة الصعبة، والتي كانت مفتوحة على كل الاحتمالات بانتخابات 23 أكتوبر 2011، وهي وعلى الرغم مما شابها من نواقص أول انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة في تاريخ البلاد، أقنعت التونسيين وانتزعت إعجاب العالم، نجح

التونسيون، رغم الأخطار والانفجارات المطلبية والانفلات لأمني والتي لا تخلو منها أي ثورة، نجاح أخر يضاف للنجاحات السابقة، كان إشارة أمل عزّزت الثقة بالمستقبل وأكّدت أن تونس على الطريق الصحيح.


المغرب (يومية، تونس)

جزء 5

الخميس 22 جانفي 2015

 بقلم: الهاشمي الطرودي


نجد جذور الاستثناء التونسي، أيضا في أطروحات ومواقف وسياسات ونضالات الحركة النقابية، لقد اهتدى الزعماء المؤسسون، ومنذ انطلاق الحركة في مطلع العشرينات، إلى العلاقة الجدلية بين الوطني والاجتماعي

فأصرّوا على بناء حركة نقابية وطنية ومنحوا الأولويّة للوطني على الاجتماعي، رغم هول الضغوط وصنوف القمع والاضطهاد التي تحمّلوها في سبيل تحقيق هذا الهدف، بدءا بنفي محمد علي الحامي من وطنه ونهايته المأسوية في ديار الغربة وانتهاء باغتيال فرحات حشاد، مرورا بقوافل الشهداء الذين قدّموا أرواحهم قربانا لتحرير الوطن وإعلاء كلمة العمال.

في هذا تحديدا تكمن الإضافة التي جعلت الحركة النقابية التونسية تختلف عن مثيلاتها في الفضاءين العربي والإفريقي، تتمثل الإضافة في وعيها بدورها الوطني ونضالها من أجل ممارسة هذا الدور، كما تتمثل في رفض النقابيين أن يكونوا مجرد أرقام في فروع المنظمات النقابية الفرنسية وإصرارهم على بناء نقابة وطنية مستقلّة.

الحركة النقابية وهموم الوطن

قال النقابيون، باختصار، نحن أيضا أمّة، فشلت التجربة الأولى، وفشلت الثانية، ونجحت الثالثة، فكان نجاحها نهاية مرحلة وبداية أخرى ليس في مسار الحركة النقابية، فحسب، بل في مسار الحركة الوطنية ككل، هذه الرؤية المتفردة لدور الحركة النقابية، في بلد مستعمر، والنضالات التي خاضها النقابيون التونسيون، حوالي ربع قرن، والتي توجت بتحقيق هذا الحلم (تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946) كانت مدخل الحركة النقابية للتحوّل إلى إحدى الفعاليات الأساسيّة سواء في معركة التحرّر الوطني أو في معركة بناء دولة الاستقلال، ولا

جدال أن الدور الذي تلعبه، اليوم، بزعامة حسين العباسي للإسهام في بناء المشروع الديمقراطي ليس سوى مواصلة لأداء دورها الوطني. بفضل هذه الرؤية تمكنت الحركة النقابيّة من الإسهام وباقتدار في صنع النموذج التونسي الذي زرع البذور التي أثمرت ما بات يوصف بالاستثناء التونسي والذي تجلّت خصوصياته سواء في طبيعة الثورة أو في عملية الانتقال الديمقراطي.
ولدت الحركة النقابية تحمل هموم الوطن، لقد نشأت بموازاة نشأة الحزب الدستوري وفي خضم الإشكاليات التي تواجهها تونس في تلك الظرفية التاريخية المعقدة.كانت النخب التونسية

تخوض، حينها، معركة وجود، تناضل من أجل اثبات الذات سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد النقابي، ومن ثمّة لا نجازف إذا قلنا: إنّ الحركة النقابية كانت ثمار معركة وطنية بامتياز، معركة روى تفاصيلها الطاهر الحداد في كتابه «العمال التونسيون وظهور الحركة الوطنية» وأوجزها ذاك الحوار المثير الذي دار بين السيد دوريل كاتب اتحاد النقابات الفرنسية والزعيم المؤسس محمد علي الحامي «كان م.دوريل يتشاءم من كلمة «نقابة تونسية» ويقول أنّ ذلك يقسّم قوّة العملة إلى شطرين أمام قوّة المال المتحدة، ولا شيء يوجب هذا الانقسام ما دامت

فوارق الأديان والأجناس معدومة في المبادئ النقابية. ولا أفهم هنا شيئا سوى أنّ التعصّب الديني أو الملّي هو الذي منعكم من الانضمام إلينا، فكان يجيبه السيد محمد علي بقوله.
«إنّني لا أنظر إلى فكرة العملة المنفصلين عنكم، ولا إلى الماضي المؤلم الذي كان لهم، وإنّما أجيبك عن مسألة الانقسام الذي ثقل حمله عليك، إنه لا يمنعكم شيء من الانخراط في النقابة التونسية ما دامت تشكيلاتها ستنخرط في العالمية طبق مبادئ العملة، وكما هو موجود عند عملة العالم أجمع، وعندئذ يمكن اتقاء الانقسام الذي تخشون شرّه، على أنّ النظام النقابي خاضع في

كل بلاد العالم لنظام الشعوب، فكل أمّة تشكّل في أرضها نظاما كاملا، ثم ينضم للعالمية»، ويضيف بلهجة لا تخلو من الغضب ومرارة الشعور بالغبن «ولماذا لا تعتبر تونس شعبا من الشعوب كما هي في الواقع ما دامت لم تكن ترابا فرنسيا، وعندها يمكن اجتماعنا كشيء واحد، ولا أرى ما يمنعكم من ذلك إلاّ إذا كانت صفة حماة تأبى عليكم التنازل لنا واعتبارنا مثلكم في الإنسانية»

لا مجال لسرد التفاصيل، فقد توافرت كل الظروف (معارضة اتحاد النقابات الفرنسية، تخلّي الحزب الحرّ الدستوري عن مساندتها، وعي السلط الاستعمارية بخطر هذه المنظمة، لقد أظهرت، وفي زمن قياسي، قدراتها على تعبئة القوى الشعبية والتحوّل إلى منظمة جماهرية) التي أتاحت للسلطات أن تقمع وبوحشية هذه النقابة الفتيّة. ففي أعقاب اضطرابات حمام الأنف في آواخر جانفي 1926 القي القبض على محمد علي وبعض من رفاقه بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي، حكم على البعض بالنفي عن التراب الفرنسي وملحقاته لمدّة عشرة سنوات، وعلى البعض الآخر بخمس سنوات.

اتحاد الشغل والدفاع عن الذاتية التونسية

لقد تحدّث الزعيم الحبيب بورقيبة في مقال عن الحركة النقابية في (1953) - وهو من أروع ما كتب-عن مأساة محمد علي ونهايته المأسوية في ديار الغربة ، «رجع محمد علي إلى الغربة وتوجه إلى مصر حيث ظفر بعمل عند أحد البشوات كسائق سيارة، وقد اضطر محمد علي إلى مفارقة مخدومه بعد حادث طارئ، صورته أنّ الباشا أمره اثر اقتبال فاخر بقصره أن يحمل سفير فرنسا إلى منزله فامتنع محمد علي، وآثر ضياع مرتزقه على أداء خدمة لممثل دولة أطردته من وطنه، وفيما بعد وجد محمد علي عملا في شركة نقل بالطريق الواصلة بين جدّة ومكّة بجزيرة العرب، وهناك لقى حتفه في حادث سيارة معتاد (1932)، هكذا كانت خاتمة مؤسس الحركة النقابية التونسية في الغربة عن وطنه».

كرّر الزعيم بلقاسم القناوي المحاولة وفشل لأسباب يطول شرحها، ثم جاء فرحات حشاد وصحبه ليحققوا بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل حلم محمد علي، تأسس الاتحاد في ظرفية وطنية ودولية مختلفة ساعدته على النجاح، فكل شيء كان يؤذن بأن عصرا جديدا على الأبواب. سار حشاد على هدي محمد علي، فقد كتب عشية تأسيس الاتحاد مقالا بجريدة النهضة ورد فيه «يوم 3 جانفي 1946 سيكون يوما تاريخيا عظيما، يومها، سيكون الشغالون قد أسّسوا اتحادهم ووحدوا كلمتهم... في منظمة نقابية قومية» وأضاف «ويجدر بنا أن نسجّل هذه الظاهرة بكل الاعتبار حيث جاءت كبرهان واضح على أن الحركة النقابية التونسية وباذر نواتها الفقيد محمد علي وإن غاب عنا جسمه فإنه خالد في قلوبنا وسيبقى حيّا ما بقيت النقابات» قد انتصرت فها هي النواة أتت ثمارها، بعد أخذ وردّ طيلة السنين العديدة، ونحن نشاهد الآن والحمد لله أبناء البلاد يطالبون ويأخذون حق الدفاع عن حقوقهم بأنفسهم...

وسرعان ما انغمر الاتحاد في المعركة الوطنية، وكان البدء بالدفاع عن الذاتية التونسية وحثّ العمال التونسيين عن الانسلاخ من النقابات الفرنسية والالتفاف حول الاتحاد «.. إنّ منظمة الس.ج.ت. ليست اتحادا كما يدعون ولكنها ابتلاع واستعباد للعامل التونسي وإذا كانت الس.ج.ت. على رأس النقابات في فرنسا فيجب أن يكون الاتحاد على رأس الهيئات النقابية بتونس فإن لتونس كما لفرنسا ملكها وعلمها وشخصيتها وذاتيتها المقدّسة من الجميع ... لا تقتصر على طلب «راسيون» خبز وبنطلون فأهدافنا أسمى وأعظم من الخبز والبنطلون. وشيئا فشيئا أوضح حشاد معالم الطريق وبلور الدور الوطني للاتحاد وساهم ومن موقع ريادي، في بناء الجبهة الوطنية» أو «الكتلة التاريخية» التي قادت مسيرة البلاد إلى الاستقلال، ثم واصلت النضال لبناء الدولة الوطنية.

ما يعنينا، في إطار هذه المقاربة، هو أن الحركة النقابية لعبت دورا محددا في صنع النموذج التونسي سواء أثناء معركة التحرّر الوطني أو في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولا تزال تلعبه إلى اليوم، بل يمكن القول أن تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس، عموما، كان سيكون شيئا آخر وذا لون آخر في غياب هذه الحركة النقابية الوطنية، هذه الحركة التي لا نجد لها شبيها في الفضاء العربي الإفريقي.


المغرب (يومية، تونس)

جزء 6

الجمعة 23 جانفي 2015

 بقلم: الهاشمي الطرودي


مشروع الإسلام السياسي الذي حرصت حركة النهضة على الشروع في انجازه، منذ اعتلائها سدّة الحكم، مثل، وبكل المقاييس، انتكاسة في مسار الثورة التونسيّة، كان محاولة وتحت يافطة الديمقراطية لأخونة الدولة وتغيير النمط المجتمعي.

لقد اتّضحت النوايا منذ البدء، اتضحت النوايا، عندما نكث القوم تعهدهم الشفوي والمكتوب بألا تتجاوز المرحلة التأسيسية مدّة السنة وتركوا الباب مفتوحا لاحتمال ديمومتها لعدّة سنوات.

هذه النوايا اتضحت من جهة ثانية، في «الدستور الصغير»، فقد تم تصميمه لإقامة نظام برلماني/مجلسي يمنح الحزب الحاكم الصلاحيات التي تتيح له، في هذه المرحلة الانتقالية، الهيمنة على مفاصل الدولة وتوفير الشروط التي تتيح له إعادة نظام الحكم القائم. اتضحت النوايا أخيرا عندما لم يقم التحالف الحاكم على برنامج مشترك وإنما على أساس المحاصصة وتوزيع السلطات، وفي إطار هذا التوزيع الذي اعتمد معيار الأغلبية والأقلية ووضع جانبا معيار الكفاءة، استأثرت النهضة بكل وزارات السيادة وجعلت التحالف مجرّد غطاء لتمرير مشروعها وتنفيذ برنامجها، والسيد عبد الوهاب المعطر كان على حقّ –وإن باح عن شعوره بالغبن بعد فوات الأوان- عندما قال «كنا في الحكومة ولا نحكم».

الغنوشي والشروع في بناء الدولة النهضاوية

في نشوة النصر، وفي ظلّ ظروف وطنية وإقليمية ودولية مواتية شرعت حكومة النهضة في تجسيد نواياها وإنجاز مشروعها، كانت بنود برنامجها، في الواقع، تلك المهمات الدقيقة التي ضبطها الشيخ راشد الغنوشي في خطابه أمام شيوخ السلفيّة، «الأمن غير مضمون، الجيش غير مضمون، الإدارة غير مضمونة... الاقتصاد ليس بأيدينا، لا يمكن تطبيق الشريعة قبل انجاز هذه المهمّات».

وزّع الشيخ في هذا الخطاب الأدوار ورسم معالم الطريق، قال ضمنيا: دورنا العمل على أخونة الدولة أو بالأحرى بناء الدولة النهضوية، ومهمتكم العمل على أسلمة المجتمع، كان هذا العقد الذي أبرمه شيخ النهضة مع شيوخ السلفية، ذاك العقد الذي ساعد السلفية، عموما، وأنصار الشريعة تحديدا، على التمدّد والتمكين، ووفّر لهم الغطاء السياسي بل الأمني الذي أدّى، وبغض النظر عن النوايا وتبريرات سياسة التراخي، إلى استفحال ظاهرة الإرهاب وتوطينه ببلادنا.

لقد اضطّرت حكومة العريض، في ظلّ المتغيّرات الداخلية والضغوطات الخارجية إلى تصنيف «أنصار الشريعة» لكن بعد خراب البصرة (كما يقال) أي بعد أن قطع التنظيم خطوات هامّة في اتجاه تحقيق المهمّة المناطة بعهدته. صدر القرار بعد أن أصبحت «السلفيّة الجهاديّة» وحاضنتها «السلفيّة العلميّة» جزءا من الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والاتصالي، بعد أن ركّزت أجنحتها الدعوية والعسكرية و»جمعياتها الخيريّة» وأجهزتها التمويليّة، بعد أن أصبح لها نفوذ لا يردّ في الفضاء الديني، بعد أن حوّلت البلاد إلى مرتع لدعاة الفكر التكفيري ولشبكات تصدير الإرهابيين لفروع القاعدة في العراق وبلاد الشام.

إثر صدور القرار قام حلف بين السلفية العلمية وبعض صقور النهضة وقطاع مهم من المتعاطفين مع هذا التيار، لقد أبلى هذا الحلف، غير المعلن، البلاء الحسن في الدفاع عن هذا التيار، ومن يدّعي خلاف ذلك فليدلّنا على وثيقة واحدة، أو تصريح واحد، أو موقف واحد يصنّف فيه حزب من الأحزاب السلفية «أنصار الشريعة» أو يدين عملياتهم الإرهابية، غاية ما يتكّرّم به هؤلاء القول: «إنّهم ضدّ العنف مهما كان مأتاه» ويشار هنا إلى أن مجلس شورى حركة النهضة نفسه أحجم عن التصنيف. إنّ هذا الجهد الموصول الذي ما انفكّت تبذله هذه الأطراف على اختلاف مواقفها لإبعاد الشبهات عن هذه التنظيمات الإرهابية حمل الكثير على الاعتقاد –وربّما لهم الحقّ في ذلك - بأن هوى هذا الحلف «داعشي» وقلوبهم مع «أنصار الشريعة»، لكن الحسابات السياسية هي ما يمنعهم من البوح بذات الصدور.

لم يحظ هذا التنظيم، فحسب، بتعاطف هذا التيار الواسع بل أصبح يحظى، أيضا، بتعاطف ومساندة قطاع من الإعلاميين وبعض الجمعيات ذات الصبغة الحقوقية، سواء لاعتبارات إيديولوجية وسياسية أو لاعتبارات أخرى، إذ لم يأل هؤلاء جهدا في التشكيك في الروايات الرسميّة للعمليات الإرهابية لتبرئة التكفيريين من هذه الجرائم ونسبتها للمخابرات وأزلام النظام السابق ولوبياته وذلك في محاولة متعسّفة، في أغلب الأحيان، وتفتقر إلى أدنى شروط الموضوعية، كما لم يأل جهدا في اتّهام الأمن، وبصفة تكاد تكون ممنهجة، بالاعتداء على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان في التعاطي مع ملف الإرهاب، وفي التحذير، بناء على ذلك، من مخاطر عودة الدولة البوليسية. لكن على الرغم من كل هذا يبقى تصنيف هذا التنظيم من قبل حكومة النهضة أمرا مهمّا من الوجهة الإستراتيجية، رغم مواصلة تبرير سياسة التراخي وغضّ الطرف، «فلئن تأتي متأخرا خير من ألاّ تأتي».

النهضة والهيمنة على مفاصل الدولة

وفي ذات الإطار وعلى هدي ذاك «الفيديو» الشهير بذلت حكومتا النهضة ما بوسعهما لأداء المهمّة الموكولة إليهما، لقد شرعت حكومة الجبالي في الهيمنة على مفاصل الدولة، وتركزت الجهود بالخصوص على تحزيب الوزارات السياديّة وتحديدا وزارات الدّاخلية والعدل والخارجية، بوصفه المدخل لتفكيك «الدولة العميقة» وبناء الدولة الجديدة، وواصلت حكومة العريض المهمّة.

لكن نتاج هذه السياسة عادت بالوبال على البلاد وبالتالي على الحركة، كانت الحركة تحفر قبرها بيديها. فسياسة «ضمان ولاء الأمن» التي باشرها علي العريض، بحزم ووثوقية وعنجهيّة مثيرة للاستغراب، أدّت، في نهاية المطاف، إلى ضرب وحدة المؤسسة الأمنية وشلّ قدراتها على مكافحة الإرهاب، كما عاقت كل الجهود التي بذلتها النقابات الأمنية لتغيير التشريعات والشروع في إرساء أساسات أمن جمهوري. ومن نافل القول أن فشل السياسة الأمنية كان أحد الأسباب الجوهرية للإطاحة بالحكومة.

نتاج سياسة الهيمنة على المؤسسة القضائيّة ليست أقل سوءا، لقد حاولت حكومة النهضة عبر سياسة الترغيب والترهيب وتكريس قوانين النظام السابق، تدجين القضاء وتطويعه لخدمة أجنداتها السياسية، لكن هذه السياسة وإن استفادت منها النهضة، آنيا، فإنها عادت بالوبال على العملية الديمقراطية، لأنها عرقلت الجهود التي ما انفكّت تبذلها الجمعيات المهنية القضائيّة ومؤسّسات المجتمع المدني لإصلاح القضاء وتوفير شروط استقلاليته.

لقد كانت علاقات هذه الجمعيات بالإضافة إلى «الهيئة المؤقتة للقضاء العدليّ سواء بالوزير الحزبي نور الدين البحيري، أو الوزير «المحايد» نذير ابن عمّو علاقات صراع متواصل، صراع بين هذه المؤسسات التي تناضل من أجل سلطة قضائية مستقلة بوصفها احد أركان البناء الديمقراطي وبين الحكومة التي تجتهد لتكريس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء لضمان ولائها للحكّام الجدد،

لا شكّ أنّ الحالة التي عليها القضاء، اليوم، أو الحالة التي عليها السجون ليستا نتاج سياسة الترويكا فأسبابها نعثر عليها، وبالأساس، في موروث سياسات العهد السابق، لكن الشيء الأكيد أن سياسة حكومة النهضة والتي سكنها هاجس الهيمنة على هذه المؤسسة وضمان ولائها ساهمت في إعاقة الإصلاح.

أمّا سلبيات «سياسة الأخونة» على السياسة الخارجية فحدّث ولا حرج، وقد لا نجانب الحقيقة إذا تبنينا القول: إنّ تونس لم تكن لها سياسة خارجية وطنية، خلال مرحلة الترويكا، لقد أقحمت في سياسة المحاور فباتت سياساتها تتماهى أو تكاد مع مواقف «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين» وراعيتيه تركيا وقطر.

باختزال منيت سياسة «الأخونة» التي انتهجتها حكومتا النهضة بفشل ذريع في المجال السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي وعلى مستوى السياسة الخارجية الإقليمية منها والدولية. لقد أدّى هذا الفشل بالإضافة إلى المأزق الذي شهده الإسلام السياسي على الصعيد الإقليمي - والذي ترجمته، بوضوح، عودة حكم العسكر إلى مصر وحالة الانسداد التي تعيشها باقي بلدان الربيع العربي - إلى الإطاحة بحكومة النهضة وإعادة الاعتبار للمبادئ والخيارات والسياسات التي شكلت، منذ انطلاق الحركة الإصلاحية وحتى انتخابات 23 أكتوبر، مقومات النموذج التونسي في إدارة الشأن الوطني. لا تصدّقوا حديث القوم عن تنازلاتهم المؤلمة وسخائهم الحاتمي فهذه هي العوامل الحقيقية التي أعادت لهم الوعي وحملتهم على تغيير سياساتهم.

الشعرة التي قصمت ظهر البعير

لقد كان اغتيال الحاج محمد البراهمي وقتل جنودنا غيلة في جبل الشعانبي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، ما جرى في أعقاب هذا الحادث الجلل كان التعبير المكثّف عن رفض المعارضة الديمقراطية وقوى المجتمع المدني لاختطاف تونس، وعزمها الأكيد على حمل الحكّام الجدد على العودة إلى الرشد والإسهام في إنقاذ البلد، فكان الحوار الوطني الذي أعاد الأمل وقاد البلاد إلى شاطئ السلامة.

لا يهمنا هنا عرض تفاصيل ما جرى، فهي حيّة في الأذهان والقلوب، ما يهمّنا، في هذا السياق، هو الإشارة إلى أهمّ أسباب المأزق الذي انتهى إليه حكم النهضة والذي حملها في الأخير، على مغادرة الحكومة، والمفارقة أنها هي الأسباب ذاتها التي تفسّر النجاحات التي حققّها الحوار الوطني والتي صنعت ما يسمّى «بالاستثناء التونسي».

السبب الأول:
نظرة حركة النهضة لتاريخ تونس الحديث والمعاصر نظرة عدميّة، فمن يراجع أدبيات الحركة ويستحضر أراء ومواقف قيادييها، خاصة في غمار نشوة الانتصار، يقف على هذه الحقيقة ويتبين أن الجماعة تجهل - ولا أقول تتنكّر - هذا التاريخ، لقد برهنت بمقاربتها وسياساتها أنها تجهل الجهود التي بذلتها الحركة الإصلاحية التونسية لإخراج البلاد من ثقافة عصور الانحطاط، عبر الدعوة لتجديد الفكر الديني والعمل على تعميم المعارف الحديثة ونشر فكر الأنوار، كما تجهل، وهو الأخطر، إضافاتها غير المسبوقة للملاءمة بين الإسلام والحداثة، ولو كان الأمر خلاف ذلك لاجتهدت لتوطين مشروعها في هذه البيئة الإصلاحية ولاتخذت مرجعيّة لها فكر محمود قبادو، وسالم بوحاجب، وعبد العزيز الثعالبي، واجتهادات الطاهر الحداد، وغيرهم بدل الارتماء في أحضان أبي الأعلى المودودي، والإمام حسن البنا، والسيد قطب ويوسف القرضاوي ومن على نهجهم.

السبب الثاني:
جهل زعماء حركة النهضة، إضافات الحركة الوطنية وخصوصياتها، ولنقل، تلطفا، إنّهم ينظرون باستعلاء بل بازدراء للحركة الوطنية والحركة النقابية ويشيحون بوجوههم عن انجازات الدولة الوطنية، فتبدو لهم تونس دولة مسخا، تبدو لهم، نتيجة هذه النظرة السودائيّة العدميّة، وخلال نصف قرن، خرابا يبابا يعمّها الاستبداد وينخرها الفساد ويسودها الكفر والطغيان. ما يحزّ في النفس، هو أن يحمل هؤلاء القادة فضلا على أتباعهم أحكاما مسبّقة عن بلدهم وأن يرونه بعيون الدعاة السلفيّين وشيوخ الإخوان، والتي يمكن إيجازها في بضع كلمات «بورقيبة منبت، تغريبي، عميل للاستعمار، عدوّ للإسلام، مارق عن الملّة» لقد أصدر الداعية السعودي عبد العزيز بن باز فتوى بتكفيره وطالبه بإعلان التوبة. لا نضيف جديدا إذا قلنا إنّ موقف النهضة من الحركة الوطنية والمشروع البورقيبي، قبل المراجعات الأخيرة، كان يستلهم تلك الانطباعات.

إنّ تبنّي هؤلاء القادة، ولا نتحدّث عن قواعدهم وأنصارهم، لهذه الأحكام المسبقة أو بالأحرى هذه الانطباعات التي تفتقر للحدّ الأدنى من الموضوعية والروح العلميّة، جعل هذه الحركة، وهي تونسية لحما ودما، في قطيعة مع تونس، تجهل خصوصيات حركتها الوطنية وإضافات حركتها النقابية وتفرّد مشروعها الإصلاحي في الفضاء العربي الإسلامي. لقد أقامت بذلك حاجزا بينها وبين البلد، حاجزا حجب عنها الرؤية وأضلّها عن سواء السبيل.

وقد لا نجازف إذا قلنا: إنّ حركة النهضة كانت، قبل هبوب التونسة، حركة منبتّة، تعيش حالة اغتراب، وتعاني مأزق انفصام مشروعها عن واقع البلد، ولا غرابة في مثل هذا الحال أن يشطب زعماؤها ما يزيد على خمسة عقود من تاريخ تونس، أن يشيطنوا بورقيبة، أن يعتبروا مشروع الدولة الوطنية شرّا مطلقا، وأن يشرعوا منذ استلام السلطة، في العمل، بشراسة وحقد وأحيانا بغباء، لإلغاء منجزات هذا المشروع وتقويض ثوابته، وفي المقدّمة الهويّة الوطنية. كان لسان حالهم يقول: وهم منغمسون في عمليّة الهدم «المقدّسة» هذه الثوابت تتناقض مع ثوابتنا «فالجماعة» هي هويتنا والأمّة الإسلامية هي وطننا.

هذا ما يفسّر، قبل عودة الوعي طبعا، عدم مبالاة القوم بعيد الاستقلال، وعدم غيرتهم على العلم، وعدم اعتزاز بعضهم بالنشيد الوطني، في هذه التفاصيل التي تجسّد الروح الوطنية تبرز القطيعة وتتجلّى غربة المشروع الذي يحملونه ويجتهدون لإسقاطه على البيئة السياسية والثقافية والدينية التونسية، بدوا وكأنهم قادمون من بلاد أخرى، جاؤوا إلى البلاد مجيء الفاتحين، جاؤوا لتحريرها من عبادة «الصّنم» لتطهيرها من أدران «هذا التاريخ الموبوء» وإعادتها إلى حظيرة الإسلام.

لكن هذا المشروع، كان يحمل، في الواقع، ورغم هالة نصر انتخابات 23 أكتوبر، بذور فنائه، لسبب بسيط، وهو أنه لا حياة لمشروع يستهدف، ولو من وراء حجاب، هويّة القوم، يسعى لتغيير طبيعة دولتهم ونمط مجتمعهم، باختصار، مشروع يقوّض أساسات الاستثناء التونسي، وينهك أسرار نجاحات الثورة التونسية.

إنّ هبّة المعارضة الوطنية والديمقراطية وقوى المجتمع المدني لتصحيح الوضع وإعادة الاعتبار للنموذج التونسي وللتونسة كهويّة وطنية والنجاحات التي حققتها في هذا المجال تؤكّد رسوخ هذا النموذج في الواقع الوطني، وتبرز أنّه عصيّ عن الإلغاء فهو ليس منبتا كما زعموا بل هم المنبتون، وفي هذا سرّ استعادة هذه القوى الوطنية للمبادرة، ودورها المحدّد في حمل حركة النهضة على العودة للحظيرة الوطنية والانخراط في مسار التونسة واقتناعها بأنه لا مستقبل للإسلام السياسي بتونس إلاّ بهذا الخيار ولا نجاح للتجربة التونسية إلا بتبنّي الحركة للعقيدة الوطنية.

 


المزيد عن محمد الهاشمي الطرودي