بحث

دراسة الجمهور أداة لترشيد القرار داخل المؤسسة الاعلامية

يأخذ أصحاب القرار داخل المؤسسات الإعلامية يوميا العديد من القرارات المتعلّقة بإنتاج مؤسساتهم من الناحية الكمية والنوعية. وتتمثل هذه القرارات في ضبط شبكة برامج محطة تلفويونية أو إلغاء برنامج معيّن أو إدخال برنامج جديد.

وكذلك في مجال الصحافة المكتوبة : بعث جريدة، بعث ملحق لجريدة، بعث ركن أو باب أو صفحة جديدة، تغيير حجم الجريدة، تغيير عنواب الجريدة أو تغيير سياسة التحرير.

وفي جدلهم حول مختلف هذه القرارات يعتمد المشاركون في اخذ القرارعلى عنصر الجمهور. فيقولون الجمهور يحب هذا النوع من البرامج أو بالعكس الجمهور لا يحب هذا النوع من البرامج. ويمكن أن تعتمد هذه الآراء على دراسات دقيقة تفصّل موقف الجمهور من مختلف ما يعرض عليه كما يمكن أن تكون وليدة مواقف شخصية تعتمد مع درجة من الانطباعية، الملاحظة و الخبرة.

فماذا يعني مصطلح دراسة الجمهور وما هو الدّور الذي يمكن أن تلعبه في حياة المؤسسة الإعلامية و ما هي الوسائل التقليدية التي يلجأ إليها المهنيون لتشخيص الجمهور في غياب دراسات الجمهور.



دراسة الجمهور أداة لترشيد القرار داخل المؤسسة الاعلامية


وثيقة من إعداد:

د.المهدي الجندوبي

يأخذ أصحاب القرار داخل المؤسسات الإعلامية يوميا العديد من القرارات المتعلّقة بإنتاج مؤسساتهم من الناحية الكمية والنوعية. وتتمثل هذه القرارات في ضبط شبكة برامج محطة تلفويونية أو إلغاء برنامج معيّن أو إدخال برنامج جديد. وكذلك في مجال الصحافة المكتوبة : بعث جريدة، بعث ملحق لجريدة، بعث ركن أو باب أو صفحة جديدة، تغيير حجم الجريدة، تغيير عنواب الجريدة أو تغيير سياسة التحرير.

وتكتسي كل هذه القرارات صبغة مهنية واقتصادية وسياسية، وعادة ما يقع اعتبار كل هذه العناصر في صناعة القرار. وفي جدلهم حول مختلف هذه القرارات يعتمد المشاركون في اخذ القرار وأصحاب المؤسسات (مسؤولون إداريون وماليون، منتجون...)، على عنصر الجمهور. فيقولون الجمهور يحب هذا النوع من البرامج أو بالعكس الجمهور لا يحب هذا النوع من البرامج. ويمكن أن تعتمد هذه الآراء على دراسات دقيقة تفصّل موقف الجمهور من مختلف ما يعرض عليه، وقد لا توجد مثل هذه الدّراسات فيلجأ أصحاب القرار إلى الاعتماد على تصوّرات شخصية حول الجمهور وتفضيله أو رفضه لنوع معين من البرامج  لنوع معيّن من المادّة الإعلامية. إذا كان الموقف الثاني هو الأكثر إنتشارا داخل المؤسسات الإعلامية العربية والإفريقية حيث بدأت دراسات الجمهور تخطو خطوات متواضعة، فإن الموقف الأوّل الغالب في المؤسسات الإعلامية بالدّول الصناعية.

فماذا يعني مصطلح دراسة الجمهور وما هو الدّور الذي يمكن أن تلعبه في حياة المؤسسة الإعلامية و ما هي الوسائل التقليدية التي يلجأ إليها المهنيون لتشخيص الجمهور في غياب دراسات الجمهور.

1)  دراسة الجمهور أداة لجلب اهتمام المعلنين 

تطوّرت دراسات الجمهور في مرحلة أولى أساسا في الدول ذات الاقتصاد ألليبرالي التي يمثّل فيها الإشهار (الإعلان) وظيفة اقتصادية. وتؤدي الجرائد ومحطّات الإذاعة ثم التلفزيون دورا أساسيا كأوعية يعتمدها الإشهار( الإعلان) مقابل موارد مالية كثيرا ما تتجاوز موارد المبيعات بالنسبة إلى الجرائد.

ويسهر المعلنون قبل إنجاز عقود إشهار(إعلان) مع الجرائد والمحطّات الإذاعية والتلفزيونية، على التثبت من أن الجريدة أو المحطّة تحظى فعلا بجمهور واسع. وتمثّل دراسة الجمهور الأداة الأكثر نجاعة للتثبت من (جماهيرية) الجريدة أو المحطّة. ولا يهتمّ المعلنون فقط بالعدد المرتفع للقراء وللمستمعين أو المشاهدين ولكنّهم يهتمون أيضا بنوعية الجمهور وطاقته الشرائية. فشركة مواد التجميل النسويّة لا يهمّها ارتفاع عدد القراء إذا كانت أغلبيتهم متكوّنة من الذكور بل قد تفضّل جريدة أقلّ إنتشارا ولكنّها تمسّ النسوة بالدّرجة الأولى.. أما شركة  المجوهرات الثمينة فهي لا تهتمّ بجمهور عريض شعبي له دخل محدود بل تهتمّ بجمهور محدود في عدده ولكنّه يتمتّع بدخل مرتفع يمكّنه من شراء المجوهرات.  وكذلك شركات اللّباس الرّياضي تهتمّ بالفئات العمرية التي تمارس أكثر من غيرها الرّياضة ويمكن أن تشتري في يوم ما لباسا رياضيا.

 
2)  دراسة الجمهور تمكّن من تشخيص اهتمامات وأذواق الجمهور 
يتكوّن برنامج محطّة تلفويونية أو جريدة من مجموعة من المواد الإعلامية والترفيهية، تختلف نوعيتها ونسبتها. ويستعين أصحاب القرار في تحديد هذه النسب بما يعبّر عنه الجمهور من اهتمامات.
كذلك بالنسبة الى الجرائد يمكن ان يقرّر رئيس التحريربعث ركن جديد على ضوء نتائج دراسة تفرز أن جانبا من اهتمامات الجمهور لا تستجيب إليه الجريدة في شكلها الحالي.

ولا تكتفي دراسة الجمهور بجمع آراء الجمهور بصفة عامة حول أنواع البرامج المعروضة (البرامج الإخبارية، الرياضة، الأفلام، المنوّعات...) ولكن تطلب عادة رأي الجمهور في برامج محدّدة هي بصدد البث أو وقع بثها منذ وقت وجيز. وقد يكون السؤال أكثر دقّة فيطلب رأي الجمهور في مذيعة أو مقدّم برنامج أو ممثّل وغيرها من الشخصيات التي تساهم في الإنتاج.

وانتشر هذا النوع من الأسئلة في الدراسات التي تنجزها المحطّات الأمريكية التي تعتمد النجومية في تقديم وتنشيط البرامج، حتى الإخبارية منها. ويمكن على ضوء هذه الدراسات أن تقرّر الإدارة إنهاء برنامج أو تغيير مقدّم أو منشّط لا يحضى أو لم يعد يحظى بأفضلية الجمهور. ويعتبر بعض المهنيون ان هذا الاستعمال لدراسات الجمهور فيه نوع من المبالغة وقد يؤدّي إلى إنهاء برامج رفيعة المستوى وذات صبغة ثقافية لا لشيء الاّ لأنّها لم تحظ باهتمام جمهور عادة ما يميل إلى برامج أقلّ ذكاء تغلب عليها الصّبغة الترفيهية السّطحية. ويتحدّث البعض عن "إرهاب" دراسات الجمهور.

وتستعمل المحطّات الأمريكية نتائج دراسات الجمهور لتحديد الموارد المالية التي يمكن أن ترصد لإنجاز برنامج معيّن. فغذا سجّل البرنامج نسبة مرتفعة من المتابعة فهو يتحصّل على دعم مالي مرتفع، أما  إذا سجّل هبوطا في نسبة الشاهدة فتقلّص الموارد المالية المرصودة لإنتاج البرنامج وقد يؤدّي ذلك إلى إلغائه.
وقد تسبّب هذه المبالغة في استعمال سير الآراء، في شلّ ما يسمّى بالإنتاج التجريبي الذي يخرج عادة عن انماط الإنتاج السّائدة التي تعوّد عليها الجمهور.

ويعبّر الباحثان فرانسيس بال وجون كازنوف عن موقف معتدل ازاء دراسات الجمهور. فهما من ناحية يؤكّد ان على اهمّيتها ويحذّران في نفس الوقت من الإنصياع المطلق للأذواق السّائدة
" إن دراسة الجمهور وردود فعله وأذواقه واهتماماته وحوافزه، ذات فائدة كبرى بالنسبة لمسؤولي المؤسسات الإعلامية الكبرى وبالنسبة لمنتجي الرّسائل، إذ إذا هم جهلوها وخاصّة أذا خيّل لهم معرفتها انطلاقا من مؤشرات خاطئة، فهم يعرّضون انفسهم للفشل ولخيبة الأمل(...) إن الهدف ليس بالضرورة إعطاء الجمهور ما يحب أو ما يطلب، ولكن وحتى في حالة ارادة الرّفع من مستواه الثقافي وتهذيب أذواقه، فلا شيء يمكن انجازه بنجاعة إذا أهملنا كلّيا طموحاته وقدراته) (1976، ص330).
F. Balle et J. Caseneuve, L’Information collective et les mass media, in encyclopédie de la sociologie, pp305-345 Paris, Larousse, 1975.

3)  دراسة الجمهور أداة تقييم داخلي للجودة 

يعتبر تقييم الإنتاج من قبل من ساهم انتاجه مرحلة عادية من مراحل العمل داخل المؤسسات الإعلامية العصرية. ويمكن أن يأخذ التقييم شكل مناقشات دورية داخل هيئة التحرير أو فريق الإنتاج وقد تنظّم ندوات داخلية لنفس الغرض (اجتماع الفريق المنتج لبرنامج الأطفال لتقييم التجربة و أدخال التغييرات اللاّزمة وكذلك اجتماع فريق شريط الأنباء أو مصلحة الإعلام الرياضي).
إن تقاليد التقييم النقدي للإنتاج الإعلامي غير موجود في الكثير من المؤسسات العربية و الإفريقية وغياب هذه التقاليد لا يسمح بتحقيق تراكم التجربة التي يكتسبها يوما بعد يوم فريق الإنتاج. وفي المحطات والمؤسسات الإعلامية التي توفّر للمنتجين فرصة النقد الذاتي، يمكن لنتائج دراسات الجمهور أن تثري الحوار المهني داخل المؤسسة.


4) تشخيص القدرات المعرفية للجمهور

تمكّن بعض دراسات الجمهور من تحديد القدرات المعرفية الفعلية التي يتمتّع بها الجمهور والتي تحدّد نوعية متابعته للبرامج ونوعية قراءاته. فإضافة إلى المعطيات حول المستوى التعليمي التي توفّرها دراسة الجمهور والتي سنفصّلها في مرحلة لاحقة، تمكّن دراسات الجمهور من تشخيص عادة درجة إطلاع الجمهور على بعض المفاهيم المتداولة في الرّسالة الإعلامية أو وظائف الشخصيات العامة التي يكثر ذكرها ووظائف المؤسسات الوطنية والعالمية. وقد أبرزت بعض الدراسات أن الكثير من المصطلحات التي تستعملها بكثرة المؤسسات الإعلامية مجهولة كليا أو جزئيا من قبل الجمهور.

5)  تشخيص نشاطات الجمهور  

وتركّز بعض الدراسات على تشخيص نشاطات الجمهور كامل اليوم لمعرفة الأوقات التي يمكن أن تمكن فيها فئات من الجمهور مستعدّة فعلا لتلقي الرسالة. من المفيد أن تتوفّر للمحطات الإذاعية والتلفزيونية معطيات حول أوقات العمل ووتيرة تحرّكات الجمهور خارج البيت للعمل أو لإنجاز نشاطات أخرى. وتعرف هذه الدراسات بميزانية الوقت التي يعتمدها واضعوا شبكات برامج التلفزيون والإذاعة.

6)  الأساليب التقليدية لتشخيص الجمهور 

وفي غياب الدّراسات حول الجمهور وفي حالة عدم الاكتراث بمثل هذه الدراسات يلجأ أصحاب القرار و المهنيون إلى الوسائل التقليدية البدائية التالية :

·         الاعتماد على الملاحظة المباشرة لسلوك الجمهور أو فئة من الجمهور، كأن نلاحظ داخل أسرنا أفضليات كل عضو ونعمّمها على المجتمع الكلّي بصفة اعتباطية، أو كأن نتحدّث مع بعض الناس في عدّة مناسبات  حول ما يقرؤونه أو يشاهدونه ونكوّن فكرة تقريبية نعمّمها أيضا على المجموعة. وتتسم هذه الطريقة بالذاتية إذ تتكوّن أساسا من إنطباعات وملاحظات متسرّعة وغير مراقبة قد تؤدّي إلى تعميم ملاحظة لا تخصّ الاّ فئة محدودة من المجتمع.

·         تصل المؤسسات الإعلامية رسائل يكتبها القراء والمستمعون أو المشاهدون، يعبّرون فيها عن إهتماماتهم ويردّون فيها على ما ورد بمقال أو برنامج أو يعّبرون فيها عن تأييدهم لموقف ما أو إعجابهم بشخص ما. وتنشر الجرائد جزء من هذه الرّسائل فيما درج على تسميته بريد القراء أو في ركن (آراء). وكذلك بالنسبة للإذاعة  فقد تخصص فترة من الوقت لقراءة جزئية للرسائل أو لشكر من راسل البرنامج. ويعتبر بعض المسؤولين والمهنيين الرّسائل، مؤشر نجاح أو إخفاق البرنامج.
وإضافة إلى محتوى الرّسائل يهتمّ الخبراء بما تحمله الرّسالة من معلومات حول الباعث : الجنس، المهنة، العمر، المنطقة، وقد يتخيّل البعض أن هذه المؤشرات كافية لتشخيص ملامح الجمهور. ان هذا الرّاي لا يمكن إعتماده لأنه لوحظ عادة أن العدد القليل من الناس الذين يراسلون المؤسسات الإعلامية لشكرها أو لانتقادها أو للتعبير عن مواقف شخصية، يتميّزون بصفات عديدة قد لا تكون الصفات الغالبة عند الجمهور الكلّي. فهم جزء غير ممثل للكلّ.

·         وفي نفس الاتجاه يعتمد بعض المهنيين على مكالمات هاتفية يقوم بها مواطنون للتعبير عن موقف ازاء البرامج أو محتوى الجرائد. وإذ تمكّن هذه المكالمات مثل الرسائل من الحصول على رجع الصدى فإنها لا يمكن أن تعتمد من قبل المنتجين والمسؤولين داخل المؤسسات الإعلامية لمعرفة آراء عامة الناس إذ لا يتوفّر الهاتف عند كل فئات الجمهور، ثمّ حتّى و أن توفّر فان الفئة القليلة التي تستعمل الهاتف لتبليغ صوتها ليست بالضرورة ممثلة لعامة الجمهور.

·         يعتمد المهنيون أيضا على المبيعات لتحديد الجمهور بصفة تقريبية بالنسبة للجرائد والمجلاّت مع اعتبار ان النسخة الواحدة يمكن ان يقع تداولها من قبل أكثر من قارئ واحد. وإذ يمكّن هدذا المؤشر من تحديد تقريبي للعدد الجملي للقراء ولتوزيع القراء حسب الجهات عندما توفّر مصلحة المبيعات جداول المبيعات حسب الجهات، فإنه يبقى قاصرا كلّما أردنا تدقيق ملامح القارئ (الجنس، العمر، المهنة...).

·         وكذلك بالنسبة إلى التلفزيون يمكن الوصول إلى أرقام تقريبية انطلاقا من معطيات إحصائية حول امتلاك أجهزة التقاط تلفزيونية. 

·         ويولي المنتجون وأصحاب القرار في المؤسسات الإعلامية وخاصّة التلفزيون، أهمية خاصّة لردود فعل الصحافة التي تنشر إضافة إلى برامج المحطّات التلفزيونية مقالات نقدية حول ما يبث من برامج. وأصبح النقد التلفزيوني وكنا قارا في الجرائد والمجلاّت وتخصّصا من التخصصات الصحفية.

إن مختلف هذه الوسائل البدائية وإن تمكّن المهني وصاحب القرار من تقليص عنصر المجهول في معرفتهم للجمهور، فهي تبقى قاصرة ويجب التعامل معها بكثير من الحذر حتى لا يعوّض المجهول بتصوّر خاطئ، كأن نعمّم رأيا عبّر عنه صحفي ونعتبر أن هذا الرأي يمكن أن يعبّر عن رأي الجمهور.

المصدر:
المهدي الجندوبي، دراسة الجمهور، مذكّرة درس الاتصال، معهد الصحافة و علوم الآخبار، غير منشورة 1990.